محمد آل الشيخ
اتخذ الرئيس المصري جمال عبد الناصر القادم من ثكنات العسكر وثقافتهم شعاراً، رفعه إلى درجة التقديس، مؤداه (لا صوت يعلو على صوت المعركة) أي المعركة مع العدو الإسرائيلي، وبسبب هذا الشعار المخادع، اتجهت كل جهود مصر وثرواتها ومقدراتها وشيبها وشبابها، إلى جعل الانتصار على إسرائيل، وإعداد القوة العسكرية، هو الهدف الأول الذي يعلو على كل الأهداف؛ وبدأ سقوط مصر اقتصادياً وتعليمياً وتنموياً من هذه المقولة المغلوطة.
المملكة يوم الخميس، وهي تخوض حرباً على حدها الجنوبي، مع العدو الفارسي الصفوي؛ أعلنت ميزانيتها، غير أن هذه الحرب رغم خطورة الأعداء لم تحرف المملكة عن أهدافها التنموية الطموحة، التي هي أساس قوتها وسبب بقائها واستقرارها، ومبعث شرعية حكامها؛ فرغم أننا نمر بحرب ضروس، مع عدو مخاتل غدّار، إلا أن الميزانية التي تم إعلانها لم يكن شاغلها المعركة، ولا وجهت كل طاقاتها ومقدراتها ومداخيلها إلى تلك الحرب، بل كانت معركتها مع التخلف وهدفها التنمية وخدمة المواطن، وصناعة الإنسان، وتمهيد السبل كي يتعلم ويتفوق ويبدع ويبني مدنياً وحضارياً، وهذا ما تشير إليه ميزانية المملكة في تفاصيلها وأهدافها النهائية، فهذه الميزانية كانت حلقة مدتها سنة، هدفها تحقيق أهداف مرحلية، مُعدَّة بعناية، لتنتهي وتتبعها سنة أخرى، تبني على ما تحقق، وتصحح ما اتضح أنه انحراف أو إخفاقات عن تحقيق الأهداف العليا، لتأتي السنة الثالثة لتستفيد مما تراكم من تجارب ونجاحات وإنجازات، وتبني عليه، والهدف النهائي بناء وطن، قوي اقتصادياً، يتكئ على قاعدة متنوعة صلبة، ليس دخل البترول فيها إلا مورداً من ضمن موارد، لكنه ليس موردها الوحيد، إذا تذبذبت أسعاره، لأي سبب كان، عوضته المسيرة التنموية بمصادر دخل أخرى.
أهمية ميزانية هذه السنة أنها أولاً جاءت ونحن نخوض حرباً على حدنا الجنوبي، مع ملالي الفرس وعملائهم. وثانياً أنها جزء أولي من سلسلة تنموية طموحة، تنطلق اليوم لتؤسس لغد مشرق على أسس سليمة وموزونة وعلمية.
كما أن من أهم مؤشراتها أن الجزء المتعلق بالمصروفات ارتفع عما كان عليه في السنة الماضية، وفي الوقت ذاته فإن العجز الكلي انخفض بشكل واضح وجلي، ما يشير إلى أن الحرب التي تستعر بيننا وبين الفرس ووكلائهم في الحد الجنوبي، لم تُعق المسيرة التنموية، وهذه رسالة في غاية الأهمية، يجب أن يقرأها أعداؤنا الفرس وأذنابهم في اليمن بعناية وتدبر، فالحرب التي يعوّلون على أنها ستستنزفنا، ويراهنون على ذلك، ها هي لم تؤثر في مسار التنمية، ولم تضع العصي في دواليب قاطرتها كما يأملون، وهذا مؤشر يقول الكثير ويحكي عن وطننا وقوته وصلابته الكثير؛ فالدول الراسخة، والمتجذِّرة، والتي هي في تحديات دائمة وحرب ضروس، تجدها دائماً كذلك الرجل العظيم الذي قال فيه المتنبي ذات إبداع:
وقفت وما في الموت شكٌ لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسمُ
ميزانية هذه السنة ليست ميزانية سنة واحدة، وإنما منظومة متكاملة مترابطة بعضها ببعض، تهدف في كل تفاصيلها وغاياتها المرحلية والنهائية إلى الرقي بالوطن وإنسان الوطن إلى مصاف الدول المدنية المتحضرة المستقرة من خلال الرؤية 2030.
إلى اللقاء.