إبراهيم عبدالله العمار
ما هو مشهد اكتشاف الآثار المصرية في ذهنك؟ قد تتراءى لك هذه الصورة: عالم آثار يحمل مصباحه ويستكشف هرماً، جو من التشويق والغموض يكتنف المنظر، يكتشف باباً مختوماً! رباه! ماذا سيكون وراءه؟ يحبس أنفاسه ويفتحه ويشهق! يا للهول! غرفة فيها مومياء فرعونية! وآثار باهرة! وكنوز ساحرة! يا له من فتحٍ هائل!!!
لكن الحقيقة أن التنقيب واكتشاف الآثار عملية أقل تشويقاً من هذا بكثير، كما يقول الكاتب نيل مغريغور في كتابه «تاريخ العالم في 100 قطعة»، فهي عملية بطيئة، مملة، تحتاج صبراً وانتظاراً، تعمل ببطء، تدوّن الملاحظات، ليست مثل مغامرات إنديانا جونز بل هي أقرب للعمل المكتبي!
وفي عام 1900م في خضم إحدى هذه العمليات الروتينية، نقّب أحد المستكشفين ووجد قبراً، ثم كتب ملاحظاته المتضجرة عن محتوياته: «جسد ذكر. عصا طينية مطلية بخطوط حمراء. صندوق فخاري أحمر صغير. عظام ساق حيوانية. أوان. مجسّم 4 أبقار».
وهذه الأخيرة هي التي تهمنا هنا، وستجذب انتباهك لو رأيتَها في المتحف البريطاني: سترى قاعدة طينية وفوقها 4 بقرات لها قرون، صغيرة، ارتفاعها عدة سنتيمترات، وليس لها هيبة الكنوز والآثار المدهشة التي وُجِدت في قبر توت عنخ أمون مثلاً، بل هذه أبسط وأقدم بكثير، فهذه القطعة أقدم من الفراعنة بل ومن الأهرام نفسها، في زمن كانت مصر ليست إلا جماعات صغيرة من الرعاة تعيش على ضفاف النيل. قبل 5500 سنة، أتى رجل إلى ضفة النهر وأمسك بحفنة من طين، ثم جلس وأخذ يشكلها ويعرضها للنار حتى صنع هيئة 4 بقرات تقتات على العشب، ويبيّن لنا هذا أهمية البقر عند قدماء المصريين، فالأشياء التي تُدفَن مع الموتى آنذاك كانت مهمة، وغالباً هدفها مساعدته في الحياة الآخرة، وقد كان البقر ذا أهمية لهم كغذاء وأيضاً كحاملات للمتاع، فإذا تضررت المحاصيل بسبب نار مثلاً صار أكل البقر آخر حل، والغريب أنهم لم يشربوا الحليب آنذاك لأنه كان قاسياً على المعدة، لكن وضعوا دم البقر في الطعام كمصدر للبروتين! واحتاج البشر فترة طويلة ليتقبلوا الحليب.
مما يلفت النظر أن الرجل وضع قروناً غريبة للبقرة، فالقرن يمتد أفقياً لليمين أو اليسار ثم للأمام بزاوية 90 درجة، ولا يشبه هذا أي بقرة اليوم، والسبب هو أن أبقارنا اليوم تنحدر من فصيلة آسيوية، أما تلك الأبقار المصرية فتأتي من بقر إفريقي انقرض اليوم. أما قبل انقراضها فكانت البقرة من أهم عناصر الحياة، تزود الناس باللحم والدم والأمان والطاقة، حتى إنها قُدِّست، وصنع المصريون إلهة اسمها «بَت»، نصف بقرة ونصف امرأة، بل وصل تقديسهم أنهم اعتقدوا أن البقرة هي التي تصنع الفراعنة!
أربع بقيرات، تحكي تاريخاً.