د.عبدالله مناع
في صبيحة اليوم التالي.. بدا متعذراً وصول (العربة) التي برمجت الاعتماد عليها، لتطوف بي شوارع (وسط البلد): من ميدان التحرير.. إلى (باب اللوق).. إلى ميدان الجمهورية أو إبراهيم باشا.. فـ(عدلي).. فـ(الشريفين).. فـ(ستة وعشرين يوليه).. فـ(سليمان باشا).. فميدان (طلعت حرب).. حيث مقهى (جروبي) الشهير بـ(ذكريات) زبائنه التاريخيين في عز أيامه من الستينات من أمثال: الحكيم والأباظة والتابعي والشناوي والموسيقار محمد عبدالوهاب.. لاحتساء فنجان تاريخي من القهوة التركي، لم يعد على صورته التي كان عليها بكل أسف.. قبل أن أدلف إلى مكتبة (الحاج مدبولي) التي تقابله لشراء ما يتيسر لي من كتب المذكرات أو الروايات، ولسؤال أبناء الحاج مدبولي الذين قاموا مقامه بعد رحيله.. عن كتابي: (شموس لا تغيب. نجوم لا تنطفئ) أو البقية الباقية منه، إذ إن هذا التطواف والمرور بتلك الشوارع التي عرفتها وعرفتني أيام الدراسة وما بعدها.. تمثل عندي الرؤية الحقيقية لـ(القاهرة)، فإذا لم أمر بها وأتأمل (فتريناتها) وأرى ناسها، وأشم رائحتها.. فكأني لم أر (القاهرة)!؟
عندما قارب النهار على انتصافه، وتأكد استحالة وصول (العربة) المتفق مع صاحبها.. فاجأني أحد الأصدقاء من جلسائي في تلك الصباحية بـ(كفتيريا سميراميس).. قائلاً: بأنه ليس هناك من داع لمزيد من الانتظار.. وأن (اوبر) لخدمات النقل الخاص داخل القاهرة (اليكترونياً) لديها الحل.. وستأتينا بعد دقائق من اتصالنا على (الانترنت) بـ(العربة) التي نريد..!! وقبل أن أشكره.. كنت أسأله عن هذه (الاوبر) وماهيتها؟ فقال: إنها شركة قامت على (فكرة) بارعة لأحد الأمريكيين لتأجير السيارات الخاصة - أو الملاكي - بلغة أهل القاهرة، التي تقف معظم ساعات النهار دون استخدام.. إلا من مشوار أو مشوارين لصاحبها.. لمن يريد من أصحابها تأجيرها عبر (اوبر) وبرنامج (جوجل)، ومن خلال نظام منصف لـ(الجميع): لمالكها ومستأجرها وللشركة نفسها.. فمع المستوى الراقي لتلك العربات الخاصة - أو الملاكي -، ونظافة وثقافة ملاكها الذين يتولون قيادتها - بأنفسهم - بهدف تحسين دخولهم.. لم تكن هناك أي مبالغات في أسعارها.. إلى جانب سرعة الاستجابة عند طلبها، وهو ما جعلني - وبعض زملاء الرحلة من الأصدقاء - نعتمد على نظامها معظم أيام بقائنا في (القاهرة).
* * *
بعد أن انتهى تطوافنا في شوارع وميادين (وسط القاهرة)، وانتهت توقفاتنا في (جروبي) و(مدبولي) كنا قد وصلنا.. عبر عربة أخرى من عربات نظام الـ(اوبر) هذا إلى.. حفل غداء أقامه أحد الأصدقاء لـ(مجموعتنا).. كان أحد الإخوان يذكرنا، بأن المملكة اشتركت في شركة (اوبر) هذه عند الإعلان عن رؤيتها (2030) في شهر إبريل الماضي.. بهدف تنويع الدخل ومصادره.. ولكن، ولأن معظم مواطنينا والمقيمين في المملكة يعتمدون على سياراتهم الخاصة في تنقلاتهم.. لم يشعر بوجود خدمات نظام (الاوبر) هذا إلا قلة من أولئك الذين يتعاملون مع (الانترت).. في مقدمتهم النساء العاملات في الشركات، وفي القطاع الخاص عموماً، وربما بعض المعلمات اللواتي يجدن استخدام (الانترنت).. بل وكان هناك من استخف بهذه (المساهمة) لتنويع مصادر الدخل عن طريق (سيارات أجرة) مهما كانت مسمياتها عند الإعلان عنها في حينه!! ولكن يبدو أن هذا الاستخفاف لم يكن في (محله)، فدولة (الإمارات) الشقيقة.. أقامت شركة أخرى.. هي (كريم) لذات الهدف، وهو النقل الداخلي عبر خدمات الانترنت، وهو ما يجعلني أقول بغير حذر: إن شركتي (اوبر) و(كريم).. كأنهما تعلنان عن قيام اقتصاديات جديدة عمادها (الانترنت) وخدماته، وأن من يتهيبون أو يترددون في التعامل مع (الانترنت) وخدماته الهائلة.. سيتحولون ذات يوم - دون أن يدرون - إلى عالم بال.. انتهى زمنه (!!) إذ فور عودتي إلى جدة.. كانت صحافتنا المحلية تعلن عن شراء الشركة السعودية للاتصالات لـ(10%) من شركة (كريم) الإماراتية بمبلغ (100 مليون دولار)، وهو ما يعني ثقتها بشركة (كريم)، ومستقبلها وعائداتها.. وإلا لما استثمرت فيها هذا المبلغ الضخم.. الذي يساوي (375) مليوناً من الريالات كما ذكرت بعض صحفنا المحلية.
* * *
على أي حال، ورغم توقف إمدادات (أرامكو) النفطية إلى مصر.. في شهر أكتوبر الماضي، والذي ترتب عليه ارتفاع هائل في أسعار (البنزين) ضاعف منه تعويم الجنيه.. إلا أن الازدحام - أو الزحام المعروف عن شوارع القاهرة وميادينها - ظل على ما هو عليه.. إن لم يتصاعد في شهر ديسمبر عن معدلاته السابقة.. ربما بسبب السياحة الشتوية الأوروبية والأمريكية، التي تهرب من صقيع أوروبا وشمال أمريكا وشتائهما القارس في ديسمبر ويناير.. إلى مصر وشمسها الدافئة.. بل وإلى مدينة (الأقصر) السياحية - الأكثر حرارة - لزيارة الآثار والمتاحف والكنائس والمعابد، فـ(الأقصر).. هي بلد السياحة الشتوية في مصر، الذي قال عنها مغنيها الفنان محمد العزبي.. أغنيته الإيقاعية الجميلة: (الأقصر بلدنا.. بلد سواح/ فيها الأجانب تتفسح/ ولما ييجي وقت المرواح بتبقى مش عاوزة تروح)!! وربما يضاف إليهم.. القادمون من الخليج والعالم العربي بصفة عامة لحضور استقبال العام الميلادي الجديد (2017م)، والمشاركة في أي من حفلات رأس السنة.. التي تشهدها فنادق القاهرة بصورة سباقية فريدة، في ظل أسعار القاهرة.. المريحة - مقارنة بغيرها - للسياح جميعاً عرباً وغير عرب.
نعم..كان الازدحام ملفتاً ومرهقاً بصورة تكاد لا تصدق.. إذ يكفي للتدليل على ذلك: الزمن الذي استغرقه انتقالنا من فندق (فور سيزون) الجيزة.. إلى فندق (سميراميس) في الجهة الشرقية المقابلة للجزيرة.. والذي بلغ أربعين دقيقة إن لم يكن أكثر..!!
* * *
لكن هذا الزحام أو الازدحام المرهق.. كان يهون من شأنه: ليل القاهرة الجميل.. وكازينوهاتها الساهرة على ضفاف النيل.. بطعامها ومغانيها.. حتى السحر، فقد أمضينا في واحد من كازينوهات (البلونايل) الثلاث.. والذي حمل اسماً غنائياً شهيراً، هو (لسة فاكر).. ليلة من ليالي العمر، أما ليلة (الزمن الجميل) واستعادة ماضي روائع الأغنية العربية.. فقد استضافها مطعم رحب جميل على أطراف شارع الحجاز.. حيث غص المكان ليلتها بأعداد من نجوم المثقفين والأدباء والسفراء والفنانين والإعلاميين إلى جانب فرقة موسيقية منتقاة من أمهر عازفي دار الأوبرا المصرية، وفرقة أم كلثوم الموسيقية.. التي شنفت أسماع الحاضرين تلك الليلة بمجموعة هائلة من أشهر أغاني رواد الزمن الجميل وعلاماته: عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وفريد ومحمد فوزي وليلى مراد وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وقنديل وكارم محمود و(طلب) أشهر المغنين الشعبيين بأغنية (ساكن في حي السيدة) التي استعادها الحاضرين أكثر من مرة، وقد كان جميلاً.. من صاحب الدعوة، أن يدعو الفنان المصري الشامل الأستاذ (سمير صبري).. الذي يعتبر بحق (الصندوق الأسود) لذكريات وقصص وحكايات ومواقف وطرائف أيام الزمن الجميل.. لـ(التحدث) في (الاستراحة) الفاصلة بين وصلتي الغناء التي امتدت كل منهما لساعتين تقريباً، فاختار من بحر ذكرياته أجمله: التحدث عن قصة أغنية أم كلثوم الشهيرة: (غداً ألقاك).. للشاعر السوداني الهادي آدم، الذي دعته (أم كلثوم) لحضور (بروفاتها)، وحفل تقديمها في القاهرة في السبعينات من القرن الماضي، لتخبره عند وصوله برغبتها في إجراء تعديل لغوي طفيف في (عنوان) الأغنية و(مطلعها) من (غداً ألقاك.. يا خوف فؤادي من غد) الخبري.. إلى (أغداً ألقاك يا خوفي فؤادي من غد) الاستفساري؟. فكانت (همزة) الاستفسار هذه إضافة لغوية رائعة.. أبرزت معنى خوف الشاعر وقلقه من هذا اللقاء!؟ لتكتسح الأغنية (أغداً ألقاك) بمطلعها.. وبذلك الجزء الفريد وغير المسبوق من ختامها الذي يقول:
(هذه الدنيا كتاب/ أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليال/ أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيون/ أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء/ أنت فيها القمر)
فارحم القلب الذي يصبو إليك
فغداً تملكه بين يديك)
لتكون (أغنية العام) التي شدت بها سيدة الغناء العربي: أم كلثوم.
* * *
على مقعد العودة إلى جدة.. كنت أتحسس تعبي من الرحلة وتفاصيلها وزحامها.. متسائلاً: أكان خيراً أن أقوم بها.. أم أعتذر عنها؟
ليأتيني الجواب من رضايا وسعادتي بها.. على الفور: بل خيراً فعلت، فالذي كسبته منها.. كان كثيراً وكبيراً، إذ يكفي أنك التقيت.. بكل تلك الصحبة من الأصدقاء الأعزاء، الذين لا تكمل الحياة.. إلا بهم!!