عبده الأسمري
نقرأ الشعر ونستلهم النصوص ونلتهم المعنى بسياق فكري وأدبي للمتذوق واطلاع وفضول للآخرين.. في ظل ذلك يبقىى «الأدباء والمثقفون والنقاد» وحدهم من يبحر بمجاديفه الخاصة العصية على التوقف أو التفرج.. فالأدب هنا «شهية مفتوحة» للإبداع في كل شيء ومرتع خصب للإمتاع. عندما نبحر في تاريخ الشعر وارث القصيدة.. فاننا سنجد أنه وعلى مر التاريخ منذ العصر الجاهلي الذي بدأت من خلاله توثيق بدايات الشعر كفن. وحتى عصر اليوم الحديث الذي لا يزال الشعر فيه صامدا أمام التقنية متعامدا مع الذائقة الإنسانية والوجدانية.
عندما ظهرت الفلسفة في العهد الإسلامي وكان يقابلها فلاسفة آخرون في أوروبا كان الشعر بعيدا عن طاولة البحث ولكنه كان حاضرا في أجندات دراسة اللغويات كعلم له اختصاصه.
عندما نتطلع لتفاصيل وتداعيات الشعر في صدر الإسلام فقد كان مرتبطا بأصناف متعددة وفنون شتى نبعت من الوضع المعيشي والإطار السيكولوجي المحيط بالحياة، حيث جادت قريحة الشعراء بشعر الحماسة وكان علاجا ناجعا لبث الحماس ونشر الدافعية في قلوب الناس -آنذاك- حتى أن المعارك كانت تبدأ ببيت وتنتهي بآخر في حين أن هنالك قصايد ركزت على جانب المديح وهي ما كانت تشكل تحويل «الشعر» في ذلك الزمان إلى وظيفة «جائلة» مقرها بلاط السلاطين ونتاجها «صرر» من الدراهم والدنانير كفلسلفة للشاعر في محاكاة متطلبات المرحلة حينذاك وكان الشعر حينها جسرا للترابط بين القبائل ووسيلة إلى إتمام صفقات التعاون القبلي أو الإصلاح بين المتخاصمين أو طلب الالتجاء إلى قبيلة أو العون من أخرى أو جميع طلبات الحياة حينها كانت الوسيلة «القصيدة» والغاية «تعطى في قيمة أخرى.
في إطار فلسفة المحاكاة بين الشعر والحياة ومثير «كلمات الشعر» واستجابة «الأهداف المطلوبة «تبرز إيحاءات الشعر وإيماءات القصيدة كسلوك أنساني مبرمج وفي خضم الحياة تبرز القصيدة كجزء من سيكولوجية «التفريغ النفسي والانفعالي» وأيضا من سيكولوجية
«المعاناة» فلو قلبنا ذاكرة الشعر فهي تنضخ بالمعاناة في قالب أدبي يبرز معاناة الشعور وأيضا يعكس إيحاءات «العقل الباطن» وقد تبرز الفلسفة وأيضا في إيماءات «العقل الباطن» التي تتجسد في كلمات شعرية وتنساق أدبا يخرج القصيدة من رحم «العناء» لتظهر وليدة في جوف الحياة في حين أن المعاناة قد تنمو فتكبر القصيدة لتلد أخرى.
في فلسفة القصيدة تحضر المرأة وتبرز العاطفة وتتوالد موجبات
«الإبداع» وقد تتشكل من ذلك تفاصيل دقيقة وهنا تعلو قيمة «النص الشعري» في عمق فلسفة المعطيات الحياتية والعاطفية التي يبرمجها الشعور وتبرزها الدوافع الإنسانية تحت سيطرة افتراضية للميول والقيم والاتجاهات النفسية.
وعندما سيطرت ذائقة الفن الشعري «التفعيلي» المتمثل في الشعر الحر باتت الفلسفة جزءا حاضرا في النص حيث تلونت النصوص الإبداع وخرجت من قيود العجز والقافية التي هيمنت عليها الإحساسات الصويتة وغلبت عليها «لغة فصحية غارقة قوية نوعا ما» حيث فرضت نوعا من قيود اللغة لتعلو على النص فيما ظل النص الحر مقيدا بروح الشاعر وإبداعه في تسييس النص بطريقة ذاتية جعلت في النصوص روح الشاعر ولو تمعنا في نصوص «محمود درويش ونزار قباني ومحمد الفيتوري وغازي القصييبي محمد الثبيتي وفاروق جويدة وفائق عبدالجليل وسوزان عليوان وغادة السمان وسعاد الصباح وقاسم حداد وغيرهم، لوجدنا أن هنالك فلسلفة خاصة للمحاكاة في النصوص بعيدا عن الأدوات الإبداعية لكل شاعر فالنص الحر أتاح رسم شخصية «الشاعر» في قصيدته ووظف روحه الخاصة بطريقة فلسفية تتيح التباين في المنتج.
لم يكن المقهى الشعبي وفنجان القهوة اليتيم والأوراق والمذكرات ونوعية القلم وجاذبية لون الحبر وكتب تستعيرها الأفئدة في الأحياء قبل وضعها على الطاولات الخشبية الممتلئة بالأوراق المتناثرة التي تشكل مكتب «سبيل» للهاربين من قيض العناء اللاجئين إلى ركن الانتماء بين المثقف والكتاب إضافة إلى ذاكرة الأحياء وذكريات جائلة وعمق صباحات الشتاء والمساءات الممطرة المشبعة بالنسيم وورود عابرة ووجوه ثابتة ونظرات الوداع في ساحات القطار والهاربين العابرين بلا عناوين كان كل ذلك مكمنا لفلسلفة المحاكاة وأدوات منتشرة في فضاء الأدب يجيد الأدباء وحدهم اصطيادها في حقب مختلفة ورغم دخول التقنية لا تزال سيكولوجية الشعر تتركز على أسس فلسفية متعددة تحاكي الأدوات التي يستطيع المثقف أو الشاعر أن يوظفها ليعيش إحساسه الفلسفي الخاص حتى تخرج القصيدة ناطقة والشعر محسوس وكي ينتج فنا أدبيا راقيا يكون منفردا.