د. سلطان سعد القحطاني
المقدمة:
قبل البدء في مناقشة هذا الموضوع ومن خاض فيه من النقاد والعلماء في الشرق أو الغرب، وقبل ما نناقش انطباق المصطلح في اللغة المدروسة، وما مدى اتفاق المصطلح مع ثقافة المجتمع المترجم إليه النص النقدي، ومدى وجود المادة في ثقافة ذلك المجتمع من عدمها، يجب علينا معرفة ودلالة النقد الثقافي، وما تعنيه كلمة ثقافة في مجتمع ما والفرق بينهما في مجتمع آخر.
تكاد تتفق المعاجم العربية على كثير من التعريفات حول الثقافة، وهناك تعريف عام، وتعريف خاص، فتعريف الثقافة- بشكلها العام- في جميع اللغات، يعني أنها العلوم والفنون التي يُطلب الحذق فيها كشرط أساسي في إطارها العام،، كالنجارة والحدادة والخياطة، وغيرها من المهن الإنسانية المتشابهة مما يتفق عليه الجميع، ويتقاطع مع هذه المهن نوع من الفنون الثقافية لفئة السكان، ودياناتهم وعقائدهم،دون الخوض في تفاصيلها الدقيقة والفروع الخاصة بمجتمع عن آخر، كالزخرفة الإسلامية والخطوط العربية، أو التماثيل التراثية والدينية في بعض الثقافات وتحريمها في ثقافات أخرى من منطلقات عقدية، وهذه خصوصيات الثقافة في أي مجتمع تكون. كما توجد ثقافة خاصة داخل تلك المنظومات، تتعلق بالتراث الشعبي أو البيئي الاجتماعي، وهذه الثقافة لتمييزها عن ثقافة خاصة في البيئة الأم نفسها، من معارف وفنون شعبية، وعادات وتقاليد، بمعنى كل ما هو مرتبط بقريتها أو بحارتها وموروثها الشعبي(1)وإذا أردنا التوسع في هذا الموضوع في مجال الثقافة، فسنحتاج إلى وقت أطول، فالثقافة بحر ليس له سواحل، لكن نريد أن نأخذ ما يتصل بموضوعنا الذي نعمل على توضيح بنوده ومستويات الدلالة في المعنى المقصود، من حيث تحديد المصطلح.
وتنقسم الثقافة إلى مستويين: ثقافة رسمية عامة لكل ناطق باللغة ذاتها، يتفق عليها كل ناطق بها في أي قطر عربي أو غير عربي، وهي ما يتعلمه الطفل في البيت منذ الصغر ثم في المدرسة،أي من لغة الأم إلى لغة المجتمع،ثم لغة الإعلام الرسمي، ولسان حال الدولة، ولكل مجتمع في العالم لغته من هذا النوع. والثاني، ثقافة شعبية، وهي الثقافة التي تميز الشعب والمجتمع في قطر ما عن آخر للناطقين بلغة واحدة، وتتصف بامتثالها للتقاليد والأشكال التنظيمية الأساسية للمجتمع نفسه، وتضم الأغنية الشعبية والفنون التراثية القليدية الخاصة بهذه الشريحة من المجتمع، وهي ليست مفصولة فصلاً نهائياً عن اللغة الأم بقدر ما تمثل من مصطلح يعود في أساسه لجذور اللغة القديمة، كقلب الجيم الفصيحة إلى ياء في لغة تميم، أو استبدال لام التعريف بهمزة بعدها ميم في لغة تهامة ونأخذ هذا المثال من الأغنية الشعبية التهامية:
ألا هاتوا أم بخور وأم عود وهاتوا أم طار يا أهل أم بيت
وهاتوا لي معاكم عود نبي نسهر سوى في أم بيت
أم بخور يعني( البخور) وأم عود ( عود البخور) و( أم طار) الطار، يا ( أهل أم بيت) والعود الثانية الآلة الموسيقية، وكانت لغة صعبة خاطب بها وفد تهامة الرسول (ص) في الحديث المعروف: هل من أم برٍ أم صيامٍ في أم سفر.لكنها أصبحت سهلة الفهم مع سياق الكلام وانتشار التعليم والوسائل الإعلامية والاختلاط.
وفي بداية الألفية الثالثة ظهرت ثقافة مضادة، وهي اتجاه ثقافي يحاول أن يحل محل الثقافة التي تحدثنا عنها كثقافة تقليدية بالمعنى المألوف، وهذا ما سنحاول باختصار شديد كشفه من أخطاء سلم بها كثير من الباحثين في النقد الثقافي ليؤصلوه، لكن دون جدوى، فوقعوا في أخطاء وقع فيها من قبلهم كثير من الباحثين الغربيين في نفس الفترة وما قبلها كبديل للثقافة الرسمية في لغاتهم،على أنهم سيؤصلون العولمة بمفهومها العام، ولم يأخذوا حساب الموروث الثقافي في كثير من المجتمعات،وإن ظنوا أنهم نجحوا في جزء منها،فإنهم لن ينجحوا في أجزاء كثيرة في ثقافة متجذِّرة في أعماق المجتمع،ولو تلبس الجيل الجديد ببعض الثقافات المستوردة، من لباس وطعام وبعض السلوكيات العامة,بالرغم من رفض شريحة كبيرة من المجتمع لها، بل رفضها من قبل الدوائر الرسمية في بعض البلاد العربية. والثقافة المضادة تحاول أن تحل محل الثقافة التقليدية،ولن تستطيع ذلك إلا بتفريغ المجتمع من ثقافته التقليدية بالكامل،وهذا في المجتمع العربي المسلم من المستحيلات،بالرغم من سوء التعليم في المناهج الحديثة الخاوية من المعلومة الجادة،إلا أن وجود القرآن الكريم- كوعاء للغة- هو الحصن المنيع الذي يجعل هذه اللغة محروسة ومقدسة، قال تعالى:{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (2) ومهما يكن من أمر، فالعربي له جذور قوية يلجأ إليها في وقت الشدة ويجدها عوناً له على الأزمات،فالقرآن محفوظ إلى يوم القيامة من الزيادة والنقصان،كما أنه وعاء للغة من الضياع وبالتالي ضياع الأمة.
ومهما يكن من أمر فإن العربي (المسلم وغير المسلم) متمسك بجذوره مهما كان ت الظروف. والثقافة العربية في خطابها النقدي تحاول البقاء على جوهرها، ولا يعني ذلك أنها لم تدخل في الحداثة، مهما كان من بعض المتخلفين المعارضين لذلك بجهالة،فوعاؤها يتسع لكل مقومات الحداثة،فالمهرجان الوطني للتراث والثقافة ( الجنادرية) يضم في برامجه سباق الهجن،وهو متقيد بنظام المهرجانات العربية الأصيلة منذ القدم، لكن قواعده مضطرة إلى تطبيق مستجدات الحياة، فالمحكَم الذي كان يجري في الماضي وراء السباق على ظهر جمل سريع، استبدله اليوم بأسرع السيارات وأفخمها، والخبير في مجال فحص الإبل من معرفة تراثية متوارثة أصبح طبيباً بيطرياً متخصصاً في الإبل من كليات البيطرة، والأطفال الذين يسابقون على ظهورها استبدلوا بآلة تشبه الإنسان( Repute) وقس على ذلك الكثير (3) . وختام هذه المقدمة : كلمة مهمة سنأتي على تفصيلها مستقبلاً،وهي أن النقد الثقافي ليس له علاقة بالنقد الأدبي الذي يحاكم النصوص،إنما هو ظاهرة ثقافية اجتماعية لا يحكمها إلا أصول الحدث الثقافي بدون مردود علمي تنظيري.