د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ولم يكن الوعي بالتحيز مقصورا على الموقف النقدي، بل تجاوزه إلى الموقف العلمي أيضا. وإذا تجاوزنا الحكاية المشهورة الزنبورية التي يروى فيها أن الكسائي قد رشا الأعراب الواقفين بباب الخليفة عند مناظرة سيبويه، وكانت سببا في وفاة سيبويه، فإن هناك مرويات أخرى تدل على الوعي بالتحيز، لا تصل الرشودة في فسادها، ولكنها تكشف عن الطرائق التي تكونت فيها الحركة العلمية، وأن المواقف العلمية كذلك لم تكن موضوعية.
ففي فهرست ابن النديم، يذكر المؤلف حكاية بداية أبي الأسود الدؤلي النحو، إذ يروي أن ذلك كان بطلب من زياد بن أبيه، وأنه اعتذر في بادئ الأمر، ثم عاد مرة أخرى، وطلب أن العمل بما كان قد رفضه، وأراد كاتبا يعينه على ما يقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر يقول المبرد: أحسبه منهم. أي من الدؤل، فكتب له. والذي يهمني من هذه الحكاية أمران:
1- أن الكاتب الأول رفض من غير سبب، وحين منح كاتب آخر من الدؤل قبل. وقد عرف مرسل الكاتب الأول سبب الرفض، فأرسل له كاتبا آخر منهم، فكأنه قد قضى على السبب المانع من استعمال الكاتب الأول. ولأن المرسل قبل موقف أبي الأسود، فإن هذا يعني أنه يتفق معه على وجاهة موقفه، وهو ما يعني مرة أخرى أنه يتواطؤ معه على القيم ذاتها التي تقوم من خلالها صلاحية الفرد للعمل المنوط به، ثم يكشف الوعي الجمعي للمجتمع الذي تمت فيه الحادثة.
2- موقف راوي الحكاية، فهو يقف عند مقطع من القصة «موتيف» دال، أو هو يراه دالا، ويستحق النقل، إذ يكشف حقيقة تكونات الأوساط العلمية، وإن كان يمثل في وعيه حالة مغايرة لما ينبغي أن يكون الواقع عليه، بدليل أنها تستحق الوقوف، والنقل، ومن ثم الكشف. هذا الملمح أو الفرق الدقيق بين المرفوض والمقبول، لم يكن ليخطر على بال أحد لو لم يكن مستقرا في وعيه، وسببا لمعاناة عدد كبير من الشداة، وطلاب العلم في ذلك الزمن.
هذا الملمح السريع الذي ينقله المبرد (وهو من الأزد بالمناسبة) يقدم التفسير لقضية طالما ألحت على الباحثين في تاريخ الفكر العربي القديم، لماذا كان أكثر العلماء القدماء في اللغة، والنحو والتفسير وغيره من الأعاجم، والفرس على وجه التحديد؟
كان التفسير المشتهر هو أن العرب، كانوا مشغولين بالفتوحات، وقيادة الجيوش، أو أنهم أعراب لا يقدرون على طلب العلم، والمعرفة إلا قليل منهم، ولكن هذه الحادثة التي يرويها صاحب الفهرست، وما صاحبها تعليق للمبرد، والحادثة الأخرى المشهورة التي دفعت الرشيد إلى نكبة البرامكة حين منعوا دخول الناس من العرب عليه، تعني أن هناك تحيزا ليس في الجانب السياسي وحده، ولكن أيضا في الجانب العلمي، بحيث إن العالم يختار تلاميذه، ومن يقربهم إليه، ويخصهم بعنايته، واهتمامه حتى يدركوا ما لديه، ويحملوا العلم من بعده، فيظل العلم يدور في فلكهم، وإذا أقبل ممن سواهم فإنهم لا ينالون شيئا.
التعصب، والتحيز بين علماء البصرة والكوفة، أو علماء الحجاز والعراق مشتهر، وإليه أعاد بعض الباحثين من أمثال ناصر الدين الأسد ما روي عن ذم لخلف وحماد، إذ يقول: «وكان من أثر هذا الخلاف في المنهجين أن تعصب كل فريق لمدرسته، وأخذ يتهم، ويضعف علماء المدرسة الأخرى، خاصة البصريين الذين كانوا يرون أنهم أخذوا اللغة عن العرب الخلص، وأن الكوفيين أخذوها عن الأعراب الذين فسدت لغتهم، وسليقتهم، ويروي عن الرياشي أنه يقول: «إنما أخذنا اللغة عن حرشة الضباب واليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد أكلة الكواميخ، والشواريز».
وهذا التفاخر أدى لأن يجمل كل واحد نفسه، ويقبح الآخر، يقول أبو حاتم: «فإذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، أو حكيت عن العرب شيئا، فإنما أحكيه عن الثقات عنهم مثل أبي زيد والأصمعي.. إلى أن يقول: ولا ألتفت إلى رواية الكسائي، والأحمري، وغيرهم، وأعوذ بالله من شرهم».
وفي مقابل ذلك روي عن ابن الأعرابي أنه كان يزعم أن الأصمعي، وأبا عبيدة كان لا يحسنان كثيرا ولا قليلا، ويروى أنه كان يقول: إنه سمع من ألف أعرابي على خلاف ما كان يقوله الأصمعي.
هذا التعصب إلى المدرسة العلمية، أو إلى المدينة كان معروفا، ومقبولا إلى حد ما لأنه كان في الغالب تعصبا يقوم على المنهج العلمي، فهو ليس للأشخاص بوصفهم أشخاصا، وإنما بناء على الرؤية العلمية التي تربى عليها النشء وأخذ عنها، وأصبح لا يرى الحقيقة كما تبدو في الطرف الآخر، فهو من طبيعة العلم أولا، ولأنه يثري الحراك العلمي بوجود أكثر من رؤية ومنهج. أما التعصب كما ورد في الأحاديث الأولى، فهو تحيز لا يقوم على رؤية علمية، وإنما مرده الفروقات الشخصية وهو ما يؤذن بالخلل في بنية المؤسسة العلمية، وفسادها.