ياسر حجازي
1
حينما نقول في خطاب التنوير: «أنّنا لسنا دعاة تاريخ يتحكّم في الحاضر، وأنّنا لا نعتبر التاريخ ضمانة للحاضر» فإنّ ذلك لا يجب فهمه أو استغلاله على: أنّ التنوير ضدّ وجود التاريخ بتفاصيله وتراكماته وتجاربه وتدويناته وآثاره ومساره؛ فالتنوير لا يرفض التاريخ العام والخاص معاً، بالمطلق، إنّما يرفض الاستسلام لهما على أنّهما متحكّمان بشكل نهائيّ في الحاضر، فالشكّ في تفاصيله أو أسبابه أو سياق مرويّاته لا يعني إلغاء عموميّاته، أو العكس أيضاً، إنّما هو جزء من فلسفة التاريخ التنويري في قراءة ما أغفله المؤرّخون أو زوّروا تدوينه، وذلك لم يكن جزءاً من (هَمّ) خطاب التنوير إنْ كان الواقع نفسه مُتحرّراً من «أغلال» التاريخ، ولم يكن ضحيّة مرويّاته وحكاياته؛ ومن هذا المنطلق فإنّ الشكّ بالمادة التاريخيّة المستغلّة لتسييس الواقع وسلب الحاضر من حضوره هو جزء من عمل التنوير الواقعي (المرتبط بظروف الواقع)؛ وإذا عُدنا إلى مسألة نفي: «وجود الدور الحضاري العربي في المسار التاريخي» البدعة التي خرجت دون حجّة من بعض دُعاة التنوير في معاداة للواقع أفضت بهم لإغماض التاريخ العربي، بالمطلق، لا بمسبّباته وتفكيكها بين الماديّة والماورائيّة؛ ولعلّ أحد لا يستطيع أن يقف بوجه اللغة بوصفها معياراً حضارياً لا تختلف عليه الأمم، والعربيّة لغة رسميّة في منظمة الأمم المتحدّة إلى جوار الإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية.
2
ماذا يريد التصوّر الذي (يصرخُ بالحضارة العربيّة الإسلاميّة المنصرمة)؟ فهل الهيام والتوحّد بذاك الحضور القديم يغيّر من واقع مجموعة من الدول العربية وما آلت إليه ظروف الإنسان فيها؟ أو وقوعها في شرك الخطاب السياسي-الديني والتطرّف والعنف الاصطفافي؟ ماذا يريد التصوّر (النافي) أيّ وجود لحضارة عربيّة؟ ماذا يريد الذي ينفي وجودنا تاريخيّاً، وينفي أبجديّتنا، شعرنا، موسيقانا، عماراتنا ورسوماتنا ونقوشاتنا وتجاربنا، امتدادنا الثقافيّ في القارات الثلاث القديمة؟
• إذا كان الرأي (الصارخ) يزعم أنّه سوف يقود العالم اليوم، تحت أسباب الدور العربي (الناقل و/أو الفاعل) في تراكمات الحضارات الإنسانيّة بصفة عامّة، فإنّ الواقع لا يلتفت لوقائع تاريخيّة، فليس من الواقعية العلمية أن يعتقد اليونانيون أو الإيطاليون أنّ حضارتهما عائدتان إلى (المركزيّة) فقط، لأنّهما لعبا دوراً في الحضارة التراكمية، فالأصل في إنجاز حضارة حيّة (اليوم) هو الواقع الحي (اليوم) وليس مقابر وسجلات التاريخ. وليس معناه، أيضاً، أنّ واقعنا الحيَّ حيٌ وذو قيمة إنجازية وحضارية، ككيانات، وليست كأفراد؛ (فالحضارة الغربية قائمة على شخوص من كلّ جنسيات العالم بما فيها أفراد من الدول العربية)
• كذلك الرأي الآخر الذي يسلب (العرب) دورهم الحضاري: (إذا شئنا أن نفصله عن الدخول في معنى الحضارات القائمة قبل الإسلام)- أقول إنّ هذا الرأيَّ الذي يدّعي: «أنّ (العربَ الكيانَ والعربيَّ الفردَ) لم يكن لهم دور حضاري تراكمي» هو رأيٌ يخلو من هدفٍ حيٍّ واقعيٍّ: (ماذا تريد من هكذا رأي؟ وفي أيّ إطار؟)؛ فأنت إذا تأمّلت هذا الرأيَّ وجدواهُ، وكان صادراً عن غير العربيّ- فإنك لا تُبعده عن عنصرية مضادة ضدّ العرب، أمّا أنْ يكون مُصدّرُ هذا الرأي عربيّاً، ويقدّمه في سياقات تصوّرات تنويريّة، فأيّ قيمة وجدوى في هذا التصوّر وأيّ تيه في هكذا تنوير لا يفرّق بين عدم الاحتكام للتاريخ وبين محو التاريخ؟ أو أنّه تصوّر مبتورٌ عن سياقه ومتورّط بأوهام قياس التاريخ بمفاهيم معاصرة.
3
إنْ كان مفهومُ الحضارة مرتبطاً بدخول الإنسان والشعوب والقانون في معادلة قويّة مع القوّة ونفوذ القوّة، وانتشار التعدّد وحقوق الإنسان وأخلاق التعايش وقبول الآخر وتقديم العلم على التراث والتجربة على الخيال أو المادة على الماورائيات، فإنّنا بحصر هذا المفهوم نُخرج كلَّ حضارات العالم السابقة عن مفهوم الحضارة الذي نقدّم له وفقا للتطوّر الإنساني ومفاهيمه اليوم، وبالتالي هو ضبطٌ يستقيمُ مع قراءة الواقع والإنسان المعاصر، ولا يستقيم مع قراءة التاريخ؛ وإنْ ذهبنا إلى مفهومٍ أو مفاهيم في الحضارة مربوطة بالمركزية والسيادة وإدارة النفوذ الدولي، فإنّك لا تستثني الرومان، ودول الأمويين والعبّاسيين والعثمانيين؛ وهكذا دواليك، كلّما ذهبنا في تداول مفهوم مختلف للحضارة وما يتداخل معها من مدنيّة وثقافة فإنّنا نخرج بتصوّرات وقراءات أخرى للتاريخ من جهة منظورنا وتصوّراتنا، وأيّاً تكن تلك القراءات والتصوّرات فإنّها لا تعني التاريخ ومساراته التي نُفّذت بناءً على مفاهيم تخصّ تلك التواريخ وظروفها ووقائعها؛ فلا يمكن لك ضبط مصطلح واحد للحضارة ومحاكمة جميع الحضارات بالاستناد إليه، إنّما يقضي خطاب التنوير التعدّدي قراءة تحوّلات المفهوم نفسه وتطوّره واختلافه من حضارة إلى أخرى.