أفضت بنا التحوّلات التي مرت بها الرواية السعودية (على مدى خمسة وثمانين عاماً) إلى أعمال روائية تستند إلى تجربة فكرية ثرية، ووعي جيد بماهية الشكل الروائي؛ الأمر الذي جعل الرواية السعودية على مدى ثلاثة عقود إحدى الأدوات الثقافية الفاعلة.
وقد ظلت هذه التجارب - لما سبق - حاضرةً في ذهن القارئ (المتمرّس تحديداً)، وقريبةً من دائرة الاهتمام النقدي (المحلي والعربي)، واستطاعت أن تمدّ لنفسها طريقاً إلى عوالم أخرى من خلال (الترجمة) و(منصات التكريم)، وأن تصنع لنفسها قيمة خاصة لدى الناشر العربي المعني بأسئلة الفكر والثقافة والأدب.
لكنّ هذه التجارب - رغم أهميتها - ليست كلّ المدوّنة الروائية السعودية، وما تمتلكه من طاقة فكرية وجمالية لم يحقّق لها الانتشار الذي حققته مجموعةٌ من الأعمال الروائية الضعيفة في مرحلة الطفرة (2001 - 2010م)، وما حظيتْ به من اهتمامٍ في مساحات القراءة الواعية أو الدرس النقدي حظيتْ بمثليه رواياتٌ ضعيفةٌ من خلال الدعم الإعلامي أو اهتمام الناشر الذي لا يعنيه من عملية النشر إلا مردودها المادي!
نحن إذن أمام مدوّنة روائية اتسعت مع بدايات الألفية الثالثة، وأصبحت - بحكم الكمّ والتفاعل - ممثّلةً للحركة الأدبية في بلادنا، دون أن تحقّق في مقابل هذا إضافة فكرية أو معرفية أو جمالية تستحق الإشارة؛ وهو ما أثّر في الصورة العامة للتجربة الروائية السعودية، إذ قدّمها للروائيين الكبار والنقّاد المتمرّسين بصورة لا تعبّر إلا عن هشاشة الرؤية وضعف الأداة، وأعطى الموهوبين (الواقفين على عتبات التجربة) دليلاً على سهولة الكتابة الروائية، إلى حدّ لا تتطلب معه أكثرَ من حكاية طويلة، ومبلغ من المال، وعلاقات إعلامية ونقدية!
-2-
وقد كان النشاط النقدي أحد الأسباب الرئيسة في تشوّه صورة المدوّنة الروائية السعودية، لعدد من الأسباب، منها:
- اهتمامه ببعض الروايات المخدومة إعلامياً، واسترساله خلفها على حساب أعمال روائية متميزة، أو قادرة على النهوض بمتطلبات الكتابة الروائية.
- اعتماده على لغة نقدية احتفائية أو متواطئة مع النصّ الروائي المشوّه!
- انقطاعه التام للوظيفة (التفهّمية) للنقد، وتخليه عن الوظيفة (المعيارية)، التي تُعنى بأسئلة الجودة والرداءة، وتهتمّ بالكشف عن فضاء التجربة الروائية ومصادر الثقافة فيها، وعن مساحات الوعي بماهية الشكل الروائي، وجملة سماته وخصائصه.
لذلك كنتُ وما زلتُ أرى أنّ الخطوة الأهمّ إلى معالجة هذا الواقع تبدأ من النشاط النقدي نفسه، وربما كان أحد المقترحات في هذا السياق الانتقال بـ (بعض) أسئلته من الموضوعاتي أو الفني إلى فضاء التجربة، ومن محدودية العمل الواحد، أو التجربة الواحدة، أو تجارب المرحلة الواحدة إلى المدوّنة بجميع أعمالها وتجاربها ومراحلها المتنوعة، وأحسب أنّ هذا التوجّه قادرٌ على:
- إعادة (الاعتبار) إلى متطلبات الشكل الروائي، وجعلها في مقدمة المعايير التي يعتمد عليها التعاطي النقدي مع العمل الروائي.
- إعادة (الاعتبار) أيضاً إلى فضاء التجربة، تمثله - في حدود هذه المقالة - منطلقاتُ الكتابة، وأدواتها، وغاياتها.
- إعادة ترتيب المدوّنة الروائية السعودية (أمام الدرس النقدي على الأقل)؛ لتكون على أساس الإضافة الفكرية والجمالية، بدلاً من الاعتماد على المؤشر التجنيسي الذي نجده على الغلاف!
- إثراء المدوّنة مستقبلاً بنقل كاتب الرواية (أو المقبل على كتابتها) من أسئلة مفككة وموزّعة على عناصر الشكل الروائي إلى أسئلة عليا، لها علاقة بالجانب الفكري، ومصادر الثقافة، وماهية الشكل الروائي.
ولا يعني الاهتمام بتوصيف هذه المدوّنة أيّ شكل من أشكال الإقصاء، أو جلد الرواية والروائيين (كما عبّر بعضهم على هامش ليالي الرواية السعودية التي نظمها مركز الملك فهد الثقافي قبل أيام)؛ لأنّ عملية توصيف أو تصنيف المدونة الكبيرة تعتمد على النسبة المستخلصة من قراءة مجموعة من الروايات يختارها الراصد وفق معايير محددة. ومن المعروف أنّ الأسئلة في مثل هذا السياق معنيةٌ بتحديد الغالب على هذه المدونة، ثم محاولة فهمه. وحين نتحدث عن الغالب فنحن نقرّ ضمنياً بوجود المختلف، ونهتمّ به أيضاً، لكن في سياق آخر له أسئلته المختلفة!.. (وللمقالة بقية).
- د. خالد الرفاعي