لم يكن بخلد أُمِّه حينما وضعته في إحدى السيارات المتنقلة بين بلدة الصفرات (بمحافظة ثادق) ومدينة الرياض وهو في سن الطفولة أن يرجع إليها وهو حامل العلم والحنكة وفصاحة اللسان. عبدالله بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن سلامة طفل كفيف في سن الخامسة، يلعب بين النخيل وفي الوديان. كانت والدته (نورة بنت حمد بن سلامة) تخشى عليه من القلبان (جمع قليب، وهو البئر)، والأفاعي والعقارب وغيرها؛ فقررت إرساله إلى الرياض عن طريق السيارات المتنقلة؛ لعله يجد البيئة المناسبة.
وصل الرياض، وحدثت له أحداث كثيرة، يصعب سردها في هذا المقال، وزامل العديد من المشايخ والقراء. ونصحه أحد المشايخ بالذهاب إلى الطائف والدراسة في دار التوحيد. شد رحاله إلى الطائف؛ ليكمل المرحلتين المتوسطة والثانوية، وبعدها أكمل الدراسة في كلية الشريعة بجامعة أم القرى؛ لينتهي به المطاف في القاهرة؛ ليكمل دراسة الماجستير في جامعة الأزهر. أكمل دراسة الماجستير، ولكن بعد وفاة والده - رحمه الله - لم يستطع الحصول على الشهادة؛ ليعود إلى الرياض، ويبدأ في رحلة الاعتناء بوالدته وإخوته.
عُيِّن معلمًا في مدينة الرياض في متوسطة فلسطين بحي الشميسي، وخلالها تم انتدابه إلى ثانوية الدمام لمدة ثلاثة أشهر. انتقل بعدها إلى متوسطة عمر بن الخطاب بحي سلطانة؛ ليختتم بعدها حياة التعليم عام 1413هـ. خلال فترة عمله معلمًا عمل محاميًا لكثير من القضايا، وكان يترافع عن أقاربه وزملائه حبًّا فيهم، ودفعًا للظلم. بعد تقاعده عام 1413هـ قام بمزاولة مهنة المحاماة حتى وفاته - رحمه الله -.
والدي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن سلامة رجل محبوب، لم يقابل رجلاً درّسه أو عمل معه أو ترافع عنه أو كان خصمه إلا وقبّل رأسه، ودعا له؛ كونه رجلاً لا يقبل الظلم، وينصر المظلوم. والدي معروف بالحكمة في إدارة الأمور، والحزم في اتخاذ القرار، وكثرة الأصدقاء في كل الأماكن التي زارها أو سكن بها. والدي أبٌ حكيم، ومعلّم فاضل لأبنائه، ومرشد في شتى المجالات.. تجده في أحنك الظروف يتحدث بالعقل، لا بالعاطفة، ولا يختار من الأمور إلا أوسطها. والدي محب لإخوانه وأخواته، معاونٌ لهم على أمور الحياة، جامعٌ لهم في المناسبات.
لن أتحدث عن مواقفه؛ فهي كثيرة؛ يصعب سردها.. ولعل كلُّ من يعرفه لديه موقف معه، يستحق أن يؤرخ، ولكني سأتحدث عن بعض صفاته بوصفه أبًا.
كان والدي حريصًا كل الحرص على أبنائه وبناته، لا يتوانى في السؤال عن أدق التفاصيل في حياة كل واحد منهم. لا يقبل بالتقصير أو التهاون بأمور الدين والدنيا، بل كان - رحمه الله - يحثنا على التزود منهما، والحرص على أدائهما بكل اجتهاد. كان محبًّا للاستماع لقصص الأبناء والأحفاد مستمتعًا بتفاصيل حياتهم اليومية ومواقفهم المستمرة، وموجهًا مرة، ومضاحكًا مرة. لم أتحدث يومًا ما معه إلا وأجده يصغي إليّ بكل حواسه، يستمع إلى كل كلمة، ويعلق على كل حدث. المقال يطول في وصف حياة أبي ومعلمي الأول، ولكن لعلني أنا وإخوتي وأقاربي نقوم بجمع أغلب مواقفه في مقالة أو كتاب.
رحل والدي من الدنيا إلى جوار ربه يوم الأحد 5 ربيع الأول عام 1438 للهجرة، الموافق 4 ديسمبر عام 2016 ميلادية، عن عمر يناهز الثمانين عامًا، بعد معاناة مع المرض. عزاؤنا الوحيد ما ورد في حديث أنس - رضي الله عنه -: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة». فأرجو الله أن يلتقي بأحبته في الفردوس الأعلى، وأن يجعل ما أصابه تكفيرًا له، وأن يجزيه عنا أحسن الجزاء، إنه سميع مجيب الدعاء.
- سعد بن عبدالله بن عبدالرحمن السلامة