سبحان من قال وقوله الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} سبحان من له ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، سبحان الذي جعل الموت حتماً محتوماً يأخذ منّا أهلنا وأحبابنا، كما سيأخذنا من أهلنا وأحبابنا، سبحان الذي قال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}.
بقلوبٍ يغشاها الرضا بقضاء الله، ويكتنفها الصبر على أمره، جل وعلا، فقدنا، قبل أيام، أبانا وعميد أسرتنا، العقيد شحات بن أحمد مفتي، رحمه الله رحمة واسعة، الذي وافته المنية يوم الأحد؛ 12 ربيع الأول، من عام 1438هـ، بعد صبرٍ على المرض الذي أقعده في داره سنوات طويلة.
شحات مفتي، رحمه الله، من مواليد وأهالي المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، أكرمه الله بستة أبناء وابنتين، ويسّر له العمل في مجال الأمن العام؛ حيث بدأ حياته العملية في الرياض، وارتقى في صفوف الضباط، بفضل من الله، الذي أوقع في قلبه حب العمل. ولعل خير شهادة لقدرات هذا الرجل الإدارية والمهنية، ولإخلاصه في عمله، أنه اختير لإدارة مرور مكة المكرمة، شرّفها الله، قبل حوالي أربعة عقود، ولم يكن قد عمل قبلها في هذه البقعة الطاهرة.
خلال سنوات خدمته في مكة المكرمة، بذل رحمه الله، قصارى جهده في عملٍ لا يرتبط بساعات دوام، فأصبح شغله الشاغل متابعة حركة السيارات والقافلات التي تقل أهالي مكة وزوارها خلال الأيام العادية، وأثناء مواسم الحج والعمرة، على حدِّ سواء.
لم يثنه عن النهوض بمسؤوليات عمله حرٌّ ولا قرّ. ولم يتوقف عنها في ليلٍ أو نهار. غاب عن أهله الكثير من الأيام والليالي، ولم يكن عزاؤهم في غيابه إلا أنه كان يخدم مكة وأهلها وزوارها، ويُيسِّر على المسلمين إتمام مناسكهم. وكان أهل بيته، كما كان هو، يستذكرون حديث المصطفى، صلى الله عليه وسلم إذ قال، «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرور تدخله على مسلم». وإننا لنسأل الله، جلت قدرته، أن يكون رحمه الله، وكل رجال الأمن في بلادنا الحبيبة، وكل من قام، ويقوم، على خدمة الحجاج والمُعتمرين والزوار، بإخلاص وطيب نفس، ممن يصدُق في حقهم هذا الحديث العظيم.
وفي أوائل الثمانينيات الميلادية، صدرت الأوامر فانتقل عمله رحمه الله، إلى جدة، ليكون رئيساً للمرور فيها. وبطاعة ولاة الأمر التي جُبل عليها، قَبِل هذه المهمة، وإن كان قد أحب مكة وتعلق بواديها وبمن فيها، حُباً لا يُمكن أن يلومه فيه أحد. وفي جدة، باشر عمله بنفس درجات الإخلاص والتفاني التي عُرفت عنه في مُهماته السابقة.
والذين يعرفون عروس البحر الأحمر، يعرفون أنها مع شهرتها بشواطئها الجميلة وأسواقها الساهرة، عانت من زحام شديد، كان نتيجةً طبيعيةً لنمو مطرد في السكان والسيارات، مع ما رافق ذلك من بعض التصرفات الرعناء التي ابتُلي بها بعض الشباب، مثل السرعة المتهورة، والتفحيط ؛ هذه الممارسة الخطرة، التي أودت بحياة الكثير من ممارسيها، كما أودت بحياة ضحايا أبرياء كُثُر.
لم يكن لهذا الداء من دواء إلا ما يقدمه الأب، الذي يقسو أحياناً ويلين أحياناً أخرى مع أبنائه، بغية تربيتهم تربية صالحة، تُعالج مُخطئهم وتُقوّم ما أعوجّ من تصرفاتهم، وتحفظ لهم ولذويهم حياتهم وسلامتهم. وقد عُرف العقيد شحات مفتي، رحمه الله، في الفترة التي تولى فيها إدارة مرور جدة، بإشرافه المباشر على ملاحقة المفحطين، والتعامل معهم بشدة وحزم، دون أي استثناء. كما كان بابه، وقلبه، مفتوحين لأولياء أمور هؤلاء الشباب، ليؤكِّد، حقاً، هدفه السامي الرامي إلى حفظ النفوس والأجساد من كل شر. مُستلهماً، في هذا، قول المولى عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وإننا لنسأل الله، سبحانه وتعالى، أن يكون رحمه الله، ومعه كل رجال الدولة الذين يُسهمون في حفظ الأنفس وحمايتها، ممن تصدُق في حقّهم هذه الآية الكريمة.
تقاعد رحمه الله، من عمله في إدارة مرور جدة، واستبدل بالعمل العسكري عملاً مدنياً في مكتب مشروعات المطارات في جدة، لفترةٍ من الزمن، حيث عمل مستشاراً أمنياً هناك. وكانت هذه هي آخر وظيفة له.
بعدها، لازم داره، وكما هي حال كثيرٍ ممن تركوا مناصبهم، بقيت نخبةٌ من الأخيار من أصدقائه مستمرةً في التواصل معه، ولم يتخلوا عنه لأنهم أحبوه لشخصه وليس لمنصبه، ولازموه وشاطروه أفراحه وأحزانه، وأحيوا مجلسه الأسبوعي في داره، لأكثر من ثلاثة عقود، وحزنوا، بقدر حزن ذويه، وهم يرون تقدمه في العمر يأتي على صحته وقوته وذاكرته بل وحتى بصره. حتى وصل قطار حياته إلى محطة الرحيل.
واليوم، وأنا، وسائر أفراد أسرتنا، نستذكر مسيرة أبانا، رحمه الله، ونحسب أنه ممن أحيا النفوس، وأمّنها، فنرجو أن يكون من أحب الناس إلى الله، لنقف مُبتهلين إلى الله، جلّ وعلا، أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته، وأن يُمطر عليه شآبيب مغفرته، وأن يُسكنه من الجنة الفردوسَ الأعلى، مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وأختم رسالتي هذه بالشكر والعرفان لكل من تفضّل بتعزيتنا في فقدنا هذا الرجل الفذ، وأسأل كل من يقرأ هذه الرسالة ألا ينسى شحات مفتي، رحمه الله، من الدعاء له، ولجميع موتى المسلمين بالرحمة والمغفرة والجزاء الحسن.
اللهم أرحمه، واغفر له، وأجمعنا وإياه في مستقر رحمتك. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }، والحمد لله رب العالمين.
- ياسر مفتي