«الجزيرة» - علي الصحن:
تعلن الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2016-2017 وسط عالم يموج بالكثير من التحديات والمتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتحت وطأة ظروف متنوعة أسهمت بشكل أو بآخر في التأثير على الاقتصاد العالمي، وجعله بين مطرقة المستقبل وما يجب أن تفكر فيه الحكومات لبناء أوطانها وشعوبها والمحافظة على استقرارها، وبين سندان الحاضر الذي يحاصرها واقعه من كل مكان، ويجعلها رهينة خيارات محدودة في بعض الأحيان، وخيارات مجبرة عليها في أحيان أخرى.
إن العالم اليوم ليس هو العالم نفسه قبل عشر سنوات، فقد تغير واقعه وتغير وجهه، وتبدلت أشياء كثيرة فيه، بطريقة ما كان أكثر المراقبين الراسخين في العلم يظنها تحدث بهذه السرعة، وهو ما جعل الحكومات أمام تحديات حقيقية في الداخل والخارج، وتقديم مبدأ الحيطة والحذر كمبدأ مهم في التعامل مع أمورها المالية، دون الإفراط في التشاؤم في هذا الجانب، لكن المحاسبون والقائمون على المال يدركون أن ما لهم من محيص أمام الواقع الاقتصادي الذي يضرب أطنابه في أنحاء العالم اليوم.
المملكة العربية السعودية جزء من هذا العالم لابد أن يطولها شيء من أحداثه الاقتصادية المتسارعة، وقد عملت الحكومة السعودية منذ موازنة العالم المالي 1437-1438هـ على تقديم سلسلة إجراءات وحلول متسارعة للحد والتحوط من تأثيرات مشكلات الاقتصاد العالمي وضبط الإنفاق وضمان عدم تأثر مسيرة التنمية في البلاد بما يحدث في الخارج من ظروف وتداعيات، وقد نجحت - ولله الحمد - بتدابيرها وخططها، والعالم برمته يشهد على استقرار الاقتصاد السعودي، وقدرته على التماسك أمام كل الظروف، وقدرة الحكومة على الوفاء بكل التزاماتها الداخلية والخارجية، وثبات سعر الريال، واستمرار مسيرة التنمية والبناء في نواحي البلاد عامة.
تأتي الموازنة هذا العام وفي أذهان المخططين رؤية المملكة 2030م وبرنامج التحول الوطني 2020 الذي يهدف بشكل أساسي إلى رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وتحقيق التوازن المالي وتقليص الاعتماد على النفط عبر تحديد أهداف إستراتيجية تسعى الجهات المشاركة تحقيقها خلال السنوات الخمس التي تنتهي في العام 2020م، وما من شك أن الرياضة التي ظلت محل واهتمام القيادة طوال العقود المالية ما جعلها تتبوأ مكانة عالية، وتصل إلى مستوى تنافسي مرتفع، وتسجل حضوراً لافتاً في مشاركاتها الدولية المختلفة، ستكون أحد المستفيدين من برنامج التحول الوطني ومن رؤية المملكة، وستتاح لها الفرصة بشكل أوسع من ذي قبل في خلق إيراداتها بنفسها والانطلاق بأريحية للتناغم مع الخطط الاقتصادية والإستراتيجية المختلفة، بما يولد قدرات تنافسية أفضل ويقدم خدمات أشمل للمستفيدين من القطاع الرياضي في البلاد والمنتسبين إليه.
وفي شأن الموازنة العامة للدولة هذا العام، فإنها تأتي بعد سلسلة من القرارات العليا التي هدفت إلى إصلاح القطاع الرياضي، وضخ المزيد من الدماء في أوردته، والسعي به إلى أفاق أوسع، تنقله من دائرته المالية الضيقة، وندرة موارده، وعدم قدرته على مواجهة المصاريف فضلاً عن ترشيدها، إلى محل استثمار واسع، يضمن تدفق الإيرادات بشكل منتظم، ويمنح رجال المال فرصة تقديم ما لديهم من أفكار تطويرية واقتصادية، ويتوج جهود الدولة الساعية إلى جعل الرياضة أحد الموارد المالية الجيدة بدلاً من كونها تستنزف المال على الدوام.
أول القرارات التاريخية أمر ملكي صدر في السابع من مايو الماضي (30 رجب) وتضمن تحويل الرئاسة العامة لرعاية الشباب التي حملت هذا الاسم لأكثر من 45 عاماً إلى الهيئة العامة للرياضة، ومعلوم للجميع أن التغيير ليس للاسم فقط، بل هو يمتد لأوسع من ذلك، من ناحية ارتباط الهيئة المالي واستقلاليتها وقدرتها على إدارة أصولها المالية ومواردها، واتساع الدائرة التي تستطيع التحرك بها. وبحسب الأمير عبدالله بن مساعد رئيس الهيئة فإن (القرار يجسد ما يحظى به قطاع الرياضة من دعم وعناية واهتمام من قيادة هذا الوطن الغالي، وأنه يمثل مرحلة جديدة تحمل في طياتها مستقبلاً رياضياً أفضل بإذن الله، من خلال جهاز رياضي قوي ومنشآت عصرية حديثة وعمل مركز سيحقق بتوفيق الله مستوى رفيعاً للرياضة التنافسية، ويسهم في نشر رياضة مجتمعية فاعلة. واعتبر سمو الرئيس العام القرار خطوة متسقة مع ما حملته رؤية المملكة 2030م وما تضمنته من مبادرات لنشر الرياضة وتعزيز قدرات أبناء الوطن في المحافل الدولية.
ثاني القرارات كان ما أعلنه مجلس الشئون الاقتصادية في الثالث عشر من نوفمبر الماضي (13 صفر) مناقشته لموضوع إعادة هيكلة القطاع الرياضي وتطويره وتنميته بما يخدم تنافسية الرياضة في المملكة على كل الأصعدة، وفي حينه وجه المجلس الهيئة العامة للرياضة والجهات المعنية الأخرى باتخاذ ما يلزم لإنشاء صندوق تنمية الرياضة والرفع عن ذلك خلال مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر (تنتهي في 13 جمادى الثانية المقبل).
ومن بين أهداف الصندوق:
- تقديم القروض والتسهيلات للأندية الرياضية التي ستخصص فيما بعد أو التي لن تخصص.
- إيداع محصلات بيع الأندية في كافة المراحل التالية.
- دعم الألعاب الرياضية المختلفة وتنميتها.
- الاستثمار في المجالات ذات الصلة.
- المساهمة في تخصيص الأندية الرياضية.
- إنشاء وتمويل حاضنات لألعاب الهواة المتعددة تحت مظلة مؤسساتية بما يخلق وظائف تزيد عن (40) ألف وظيفة.
تتويج القرارات المتلاحقة لدعم النشاط الرياضي وتحريك مياهه الراكدة ذات العلاقة بالمال والاقتصاد، ومده بمفاصل جديدة تعينه على التحرك بديناميكية أكثر، وتمنح أهل الرياضة المجال لمصافحة أهل الاقتصاد وتقديم عمل يخدم الوطن وأهله كان قرار مجلس الوزراء التاريخي الذي صدر في الحادي والعشرين من نوفمبر الماضي (21 صفر) والذي أُعلنت فيه الموافقة على تخصيص الأندية الرياضية التي تشارك في بطولة الدوري السعودي لأندية الدرجة الممتازة لكرة القدم (دوري المحترفين)، وتحويل الأندية الرياضية – التي تقرر اللجنة المشار إليها في البند (خامساً) من هذا القرار تخصيصها – إلى شركات بالتزامن مع بيعها، وتتولى الهيئة العامة للرياضة منح هذه الشركات تراخيص وفق شروط تضعها لذلك، مع قيام الهيئة العامة للرياضة – بالتنسيق مع وزارة التجارة والاستثمار، ووزارة الاقتصاد والتخطيط – بوضع الضوابط والشروط اللازمة لممارسة شركات الأندية لنشاطها، ورفع ما يتم التوصل إليه لاستكمال الإجراءات النظامية في شأنها، وقيام الهيئة العامة للرياضة بالتنسيق مع الاتحاد العربي السعودي لكرة القدم ورابطة دوري المحترفين، بتعديل ما يلزم من الأنظمة واللوائح والقواعد المعمول بها لدى الهيئة العامة للرياضة وغيرها من الأجهزة المعنية بالرياضة – بما يتوافق مع متطلبات تخصيص الأندية وإعادة هيكلة القطاع الرياضي، ورفع ما يلزم الرفع عنه لاتخاذ الإجراءات النظامية اللازمة في شأنه.
كما تضمن القرار التاريخي تكوين لجنة تتولى الإشراف على متابعة استكمال مراحل تخصيص الأندية الرياضية وتنفيذ إجراءاتها، وللجنة تشكيل لجان فرعية وفرق عمل للتنفيذ والاستشارات المالية والقانونية، وتفويضها بالصلاحيات اللازمة لتنفيذ ما تتطلبه مراحل التخصيص وإجراءاتها.
ولا شك هنا أن انتقال ملكية وإدارة الأندية الرياضية إلى القطاع الخاص ولو بشكل جزئي بعد أن كانت مملوكة للدولة أمر من شأنه أن يطور العمل في الأندية، ويحررها من روتينية الإجراءات اليومية، ويجعلها قادرة على التحرك في مساحات أوسع لتقديم خدمات أفضل في المستقبل، وقد جاء ترحيب الشارعين الرياضي والاقتصادي بقرار خصخصة الأندية السعودية ليؤكد أن القرار قد طال انتظاره وأن الجميع يتفق على أنه الحل الأبرز لمشكلات الأندية السعودية المالية وقدرتها على مواصلة الحضور الفاعل المشرف في المستقبل.
مع عام مالي جديد ينشر أشرعته في أرجاء الوطن، ووسط عالم يموج بمتغيرات متسارعة ومتلاحقة، تقف الرياضة السعودية كحلقة من مئات الحلقات في عقد المملكة الفريد، وهي تزدان بحضورها الزاهي، والدعم المتواصل الذي تجده من القيادة الحكيمة، تحث الخطى من أجل انجازات جديدة، وتحولات إيجابية متلاحقة، كل ذلك يحدث - ولله الحمد - وسط استقرار تام، ونجاحات متواصلة، تحققت بفضل الله أولاً ثم بقيادة حكيمة استطاعت بتدابيرها وخططها قيادة البلاد إلى أعلى درجات الرقي، وهي موعودة بالمزيد في المستقبل إن شاء الله.
كل عام وأنت بخير يا وطني... وكل ميزانية وأنت بأفضل حال يا بلدي.