د. خيرية السقاف
من باب في المسجد الحرام للطريق إليها,
إليها حيث يقطن الصمت المطبق, في الأرض الممتدة للنظر..
الأرض التي يحيطها سياج عازل يقول للزائرين: هنا تُستحضر الكيانات, ومن هنا تبدأ العبرات..!!
هنا تهيل الذاكرة اللمحات, والقسمات,
ولحظات الحركة التي كانت تدب في الأجساد المسجاة الآن تحت التراب,
وتلك التي امتزجت به فصارت رفاة..!!
تلك التي ضجت حولك حياة, وأصواتاً, ومواقف, ومشاعرَ..!
هنا هي الآن, هنا المقبرة..!
هذه الممتدة الحاضنة للأحبة الذين رحلوا,
وللأهل الذين كنت تقصدهم فتلم بطيوف تحب قسماتها, وتريحك نظراتها, وتطمئن لوسائدها وأطباقها, وترتشف من مائها المبخر, وشايها المعطر, وقهوتها المفعمة..
الحاضنة لأصدقاء كانوا بالقرب عند الفرحة, والفجيعة, والسعادة, والمرض, والنجاح, والفجاءة!!..
هنا تعج بك الذكريات.. يطوح بسكينتك الحنين, تنتزع آهتك الأشواق,
هنا تخرج وجعك, تبسط فقدك, وتحضر الكل بين عينيك فتمطران, ولا تكفان!!..
هنا في المساحة الصامتة,
في المسافة المكنونة بجغرافيتها المخبأة في الذهن, في تجاويف القلب,
مذ آخر نظرة ألقيتها على قسماتهم, قبل أن تتوارى, وبعد أن أصبحت نسيجاً في الحس, والخفق, وسكوت العجز..
هنا في المكان بكلِّه جزيئة وتفصيلا,
المكان المعجون بثراها هذه المقبرة, القريبة حد الدعاء من بيت الله, نقف..
هنا في الانبساط الممتد بتقسيمات متوازية تفصل بين كل جسد لحبيب تجيء,
تجيء لتلقي السلام عليه, دعاءً له حيث ينام تحت جزء منها, فلا تكاد تميز مكانه إلا بارتفاع يسير تحدده حجارة بيضاء, ترمز إلى أنه هنا, جسده الذي كان نابضاً ينام في دعة بين يدي الرب, في أمان رحمته, وصمت الثرى المكنون بمادته, بلحمه الذي كانت تضج به أنسجته, عروقه وشرايينه, عضلاته وأعصابه, وحسه.., وصوته الذي لا تزال نبراته ترافقك لحظاتك!!..
جئت كما تجيء, جئت إلى هنا,
إلى حيث أخذتني العربة ببطء في الاتجاه إليها..
هذه المقبرة المغشاة بمهابة, خلف سورها الممتد, المكسو بعرائش السدر والسنديان, المظلل بخفوت المهابة, وسكوت الوقار, ودفين الفقد..!
وقفت, ألقيت السلام على من سبقني,
وعليك نوارة, على من ولدك, من رباك, وحضنك, من رافقك, صادقك, وأسعدك, وعليهم..
سلام عليكِ, عليهم في برد رحمتك رب اكنفها وهم..
سلام عليكِ, وعليهم في روضة من رياض جنتك رب بلغها وهم, في كنف من دفء رضاك اجعلها وهم, بندى من فيض عفوك نعِّمها وهم..
هنا, حيث تبسط الأبجدية كناياتها, بلاغتها, وبيانها, حسها, ومعانيها, نبضها وصوتها, حيث تشرئب أعناق الشجر بنور خفي يأتي من مكان خفي, فتشرق الطيوف, وتستوي الحياة كلها ناطقة في مدى ثراها روضة هنيئة المرقد, واسعة المبعث, رضية المنتهى!!..