د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الميزانيات بشكل عام توضع للتقيد والاسترشاد، فالمسؤول لا بد له من التقيد ببنود الميزانية، لا سيما بالزيادة، كما أن متخذ القرار يحاول التقيد ببنود الميزانية، لكن وبموجب صلاحياته يمكنه تجاوز تلك البنود بالزيادة، أو خفض الانفاق طبقاً للمستجدات التي تطرأ على الساحة الاقتصادية، وما يتطلبه الأمن والمواقف الضرورية من معطيات تتطلب مزيداً من الانفاق، كما يحق له السحب من الاحتياطي العام أو الاقتراض أو الاستفادة من الفوائض إن كان هناك فوائض للتوسع في مجالات معينة.
وميزانيات الدول في الغالب تعتمد على مجمل نشاطات الدولة سواء من إيرادات استثمارية أو ضرائب ورسوم نظير خدمات تقدم للمواطن، ويتم صرفها على أوجه الانفاق المختلفة من مدارس، وجامعات، ومعاهد، ومن خدمات صحية وبلدية، ودفاع وأمن وغيرها كثير، ومتخذ القرار يتحرى الإنفاق طبقاً للأولويات، والأهمية التي يراها لمجالات الإنفاق المختلفة، لتستمر عجلة الاقتصاد وتقدم الخدمات للمواطنين والمقيمين ليعيشوا عيشة كريمة آمنة، تساعدهم على الإنتاج والإضافة للاقتصاد الوطني، في ظل بيئة تنافسية صالحة للعطاء.
وهناك دول تمثل المواد الأولية نسبة عالية من إيراداتها، وتشكل النسبة الأكبر من ميزانيتها، كما هي الحال في الدول النفطية، وبعض الدول التي تعتمد على سلعة بذاتها، وقد رأينا دولاً عانت كثيراً عند انخفاض أسعار المواد الأولية مثل النفط، أو الحديد، أو الفوسفات، وحتى ثمرة الكاكاو، أي أن تلك الدول تعتمد على سلعة بذاتها، وبسبب كمية إنتاجها وسعرها يتحدد مصيرها الاقتصادي وميزانياتها، وأوجه انفاقها.
والمملكة من خلال رؤية 2030 جعلت نصب عينها تقليل الاعتماد على النفط، وطرح خيارات اقتصادية كثيرة لتساعد على نمو الاقتصاد الوطني وتحقيق مكامن زيادة الإيرادات غير النفطية، لأن المملكة ولله الحمد تنعم بالكثير من المعطيات التي تسمح بتنويع مجالات الاقتصاد، فهناك المعادن، والسياحة والترفيه، والإنتاج الصناعي والتقني وغيره من تلك الأدوات الاقتصادية التي تساهم في الاقتصاد الوطني، وايجاد وظائف للمواطنين لسد فجوة نسبة البطالة، وهذا عنصر هام من العناصر التي ينظر إليها متخذ القرار.
والميزانية في ظل رؤية 2030 تصب في صرف المبالغ في الأغراض التي رصدت لأجلها، ولإفساح المجال لذوي الكفاءة والقدرة، والتمييز بين الجاد وغير الجاد، لخلق بيئة تنافسية تساعد على تحفيز القدرات الكامنة لدى الفرد السعودي، القادر بعون الله على الإبداع والإنتاج الذي لا يقل عن الفرد في الدول الأخرى، ولهذا فإن ميزانية هذا العام إنما هي مرحلة من مراحل الانتقال المتتابع لتغيير هيكلة الميزانية من حيث الإيرادات والمصروفات، والحرص على الوصول إلى الغاية المرجوة، وهي تنوع مصادر إيرادات الميزانية، وتحسين كفاءة صرفها.
إن الاقتصاد بشقيه الكلي والجزئي وبنظرياته من نظرية الأيدي الخفية لآدم سمث، أو كنيزياً موديل، أو غيرها من النماذج الاقتصادية والاستثمارية، لا تحقق الغاية منها مالم تكن كفاءة الإنتاج لدى الفرد عالية، بحيث يكون موازياً لغيره من دول العالم المتقدم، في ظل منافسة عالية شرسة، لا سيما أن عصر التقنية الذي نعيشه اليوم، لا يسمح لغير الجادين في البقاء على الساحة التنافسية، التي يصنعها التخطيط السليم، والفرد الجاد والذي ينفق من وقته لإنتاج سلع وخدمات تكون أكثر مما يحصل عليه من الدولة.
إن متخذ القرار يجعل نصب عينيه الوصول إلى نمو اقتصادي مُرضٍ، وتنويع أمثل للثروة، وسد عجز الميزانية، وإيجاد بيئة تنافسية، والحصول على عملة صعبة، والحد من البطالة، والنظر إلى بلوغ فوائض تجارية مجزية، وتقديم الخدمات للمواطنين، والحفاظ على أمن المواطن والوطن.
هذه الأهداف التي يحرص عليها متخذ القرار تجسد الميزانية الحكومية جزءاً منها، لكن القطاع الخاص من المفترض أن يكون هو العامل الرئيس في تلك البنية الوطنية، والأداة الأوسع ساحة، والعجلة الأكثر فاعلية، فهو القادر على زيادة النمو الاقتصادي، مع تحفيز حكومي، وهو القادر على الحد من البطالة، لأنه من غير المنطقي أن تصبح القوى العاملة أسيرة ما تطرحه الدولة من وظائف لتزيد نسبة البطالة المقنعة، كما عاشتها وما زالت دول تعيشها حتى الآن، وهو ما تحرص رؤية 2030 على تلافيها، ليكون القطاع الخاص القائد الأول في مجال الاقتصاد، وأن تكون الدولة الساهر على توفير البيئة المناسبة لانطلاقته الكبيرة.
يعلم الجميع أن هناك زيادة في النمو السكاني في المملكة بما يقدر بنحو مليون نسمة كل سنتين، وأن هذا الوافد الجديد يحتاج إلى الخدمات اللازمة، وإذا لم يكن قادراً على المساهمة في الإنتاج بقدر يفوق ما يستهلكه من خدمات، فإنه سيكون عالة على من سبقه، وبالتالي سوف يقل دخل الفرد بطريقة غير مباشرة، أو تقل الخدمات المقدمة له، لأن الوافد الجديد لم يكن قادراً على توفير حاجته.
إن رؤية 2030 جاءت بمفاهيم جديدة، والأهم أيضاً أنها تحرص على زيادة كفاءة الإنتاج الفردي والمؤسسي، وتنوع الدخل، والحد من الاعتماد على النفط، ومحاولة سد العجز في الميزانية بأدوات جديدة.
وفق الله هذه البلاد المباركة، وحماها من كل مكروه وأدام نعمة الأمن والأمان والرخاء.