د. عيد بن مسعود الجهني
النفط الذي أبهر عقول العسكريين في الحرب الكونية الأولى كان سلاحاً ماضياً في حسم تلك الحرب وإدارة الصراع لصالح الحلفاء وهو (النفط) الذي حسم الحرب المدمرة الثانية التي اعتمدت على النفط الأمريكي في حوالي 90 في المئة من احتياجاتها عندما كانت أمريكا إمبراطورية نفطية هائلة وحيدة فرضت إرادتها البترولية على الجميع دون منازع، وتأكدت أهمية النفط وسحره وعظمته بكلمة الرئيس الأمريكي السابق ايزنهاور (لقد سبح الحلفاء نحو النصر في الحربين العالميتين على بحيرة من النفط).
والحقيقة الأخرى، أن النفط والغاز والفحم من المصادر غير المتجددة ولن يقول خبير متخصص إن تلك المصادر ليست قابلة للنفاد، لكن يصعب على أي خبير أو باحث في هذا الميدان (المعقد) القول بأن (النهاية) قريبة لأن هذا الرأي لن يصمد أمام الحقائق المعاشة فالاحتياطي المؤكد من النفط مثلاً تضاعف أكثر من 500 مرة منذ أوائل القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثالثة.
بل إنه كلما زاد الاستهلاك العالمي زاد الاحتياطي المؤكد هو الآخر، ويتصاعد معه العمر الافتراضي للنفط، حتى أن احتياطيه كسر حاجز (1237) مليار برميل، وهذا المحيط النفطي يتركز حوالي 62 في المئة منه في منطقة الخليج العربي.
ورغم أن العالم مقابل استهلاكه لأربعة براميل تقريبا لا يضيف سوى حوالي برميل واحد للاحتياطيات المؤكدة بسبب تواضع الاستثمارات في الاستكشاف والتنقيب عن النفط، فإن الاحتياطي المؤكد سيكفي العالم لحوالي أربعة عقود على فرض أن العالم يستهلك 93.5 مليون ب/ي وهي البراميل التي تستهلك يوميا من النفط الأحفوري والبترول الصخري.
إذاً، رغم تزايد الاستهلاك المسرف للنفط فالعالم لم يستهلك سوى حوالي 42 في المئة من إجمالي الاحتياطي النفطي العالمي الذي اكتشف حتى الآن، ناهيك أن طول فترة العمر الزمني لاحتياطيات النفط يتوقف على العلاقة بين معدل الاكتشافات البترولية الجديدة ومعدل نمو الطلب على النفط.
إن المستقبل واعد بالنسبة للنفط ما دام هناك نفط محتمل استخراجه من المخزون النفطي العالمي، والذي لم يتم استخراجه بعد أو ما يعرف بكميات النفط الخام الذي أثبتت المعلومات الجيولوجية والهندسية بقدر معقول من التيقن بأنه محتمل استخراجه من باطن الأرض وفي المياه باستخدام تقنيات الحفر الحديثة وطرق الاستخلاص المحسن للنفط والمعدات المستخدمة في الإنتاج على اليابسة وفي المناطق المغمورة.
وهكذا يبقى الذهب الأسود ليس مجرد مصدر للقوة في العالم، بل وسيلة لتلك القوة أيضا، فالنفط مادة هامة جدا تطال أهميتها جميع الأمم والدول والمجتمعات وشركات البترول على وجه الكرة الأرضية.
وإذا قلنا إن المملكة هي رأس الهرم والذراع القوي بالنسبة للأوبك بدون منازع فهي الدولة التي يزيد احتياطيها عن (265) مليار برميل ويمكن أن تنتج 12.5 مليون ب/ي، بل يمكن أن نرفع إنتاجها إلى 15 مليون ب/ي وأكثر، فهي اللاعب الرئيس التي يمكنها تغطية العجز في سوق النفط الدولية لتفرض النظام والانضباط على استقرار السوق إلى حد كبير، فإن الولايات المتحدة والصين هما السوق الأكبر على المستوى الدولي، وكبار المنتجين وصغارهم يراقبون سوق النفط الأمريكية والصينية باهتمام بالغ ويرصدون حركته.
إذاً، كل دولة وشركة نفط تسعى للفوز بعقود نفطية مع بلاد العم سام والصين حتى أصبح بعض خبراء النفط ونحن منهم يذهبون إلى القول إن سوق النفط الدولية قد تخلو من معناها دون الأخذ في الاعتبار سوق كل من أمريكا والصين البترولية، خاصة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية غنية بالبترول والغاز الصخريين حيث تسيطر على احتياطات كبيرة وخلال سنوات ستصبح دولة مصدرة للنفط.
وفي عالم التقلبات النفطية سريعة الحركة في ظل موجة الاستخدام المسرف للطاقة، خصوصا البترول وتقلب أسعاره صعودا وهبوطا وتأثيره البالغ في جسد الاقتصادات المحلية في الدول المنتجة له والاقتصاد الدولي وفي الدول المستهلكة خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت بالأمس إمبراطورية نفطية كبرى حتى عام 1973 عندما انتزعت الأوبك هذا اللقب الكبير.
إذا الدور السعودي في خلق التوازن في سوق النفط الدولية هو العمود الفقري في توجيه دفة سفينة أوبك منذ تأسيسها في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، ووقفت المنظمة عاجزة عن رفع سعر نفوطها ما عدا بنسبة (10) في المئة قبل حرب أكتوبر/ رمضان المبارك الشهيرة عام 1973 عندما قادت المملكة معركة قطع البترول عن الدول التي ساندت إسرائيل في حربها ضد العرب ليرتفع سعر برميل النفط من حوالي الدولارين إلى11 دولارا، وفي عام 1979 إبان الثورة الإيرانية صعد ليكسر حاجز الـ(79) دولارا للبرميل.
لكن عصر الثمانينيات هوت الأسعار خلاله إلى 7 دولارات عندما تضامنت الدول الصناعية التي تحمي مصالحها وكالة الطاقة الدولية التي تأسست عام 1974نتيجة ثورة الأسعار الأولى لتصد جماح الأوبك التي خارت قواها بعد ذلك، وبعد غزو العراق للكويت التي تحسنت الأسعار خلاله، تلقت الأسعار ضربات كل واحدة أكبر من أختها حتى بلغت مستوى نزولي إلى (10) دولارات للبرميل، ولم تر الأسعار رائحة الارتفاع الخجل إلا بعد أن اعتمدت الأوبك آلية بموجبها إنتاجها (500) ألف ب/ي إذا كسرت الأسعار حاجز 28 دولار ارتفاعا وتخفضه إذا تدنت الأسعار دون ذلك.
ولأن سعر النفط مرتبط بحد كبير بالصراعات والحروب، خاصة إذا كان ذلك في قلب منطقة النفط، فإن شن الحرب على العراق واحتلاله كان الشرارة التي رفعت الأسعار بشكل صاروخي، فلم يطلع فجر 2008 حتى بلغت الأسعار 147.10 دولار لبرميل النفط، ولم يوقف ذلك الزحف السريع للأسعار سوى أزمة الكساد الاقتصادي التي هب لهيبها من على أرض بلاد العم سام لتنحدر الأسعار لتبلغ 33 دولارا قبل ان تعود إلى الصعود بعد أن خفضت الأوبك إنتاجها بـ (4.2) مليون ب/ي لتعيد العافية إلى أسعار بترولها التي أصبحت متماسكة حتى عام 2014 وبلغت (100) دولار للبرميل، ثم بدأت أعراض المرض تظهر على جسد الأسعار لتتدنى مرة أخرى.
اليوم وبعد أن أحست الأوبك ودول أخرى خارجها بالخطر الداهم لملمت صفوفها محاولة دفع الشر عن أسعار سلعتها التي تعتبر أهم وأغلى سلعة عرفها التاريخ البشري، فعقدت اجتماعات منها اجتماع الجزائر وآخر في قطر وفيينا لتعلن أنها خفضت إنتاجها (1.2) مليون ب/ي، والدول خارج الأوبك، ومنها روسيا والمكسيك والنرويج ومصر والسودان وعمان حوالي (600) ألف ب/ي.
وإذا كانت السوق قد تجاوبت مع هذا التخفيض فتحسن السعر وكسر حاجز الـ (56) دولارا للبرميل، فإن التأكد من حسن نوايا بعض الدول في الالتزام في ما تعهدت به يحتاج إلى وقت، ثم إن التخفيض نفسه، ولكي يتجاوب معه السوق يحتاج هو الآخر إلى أشهر عدة، لاختيار مدى فاعلية ذلك التخفيض، خاصة أن السوق تحتضن فائضا كبيرا من النفط يزيد عن التخفيض الذي قررته الأوبك وتعاونت معها دول منتجة خارجها سعيا من الجميع لجلب الاستقرار لسوق النفط الدولية.
ويبقى القول إن المملكة التي هي ذراع أوبك القوي وصمام أمانها خفضت إنتاجها (500) ألف ب/ي ومعروف عنها التزامها دائما بما تقرره، وروسيا مثلا والتي يزيد إنتاجها أحيانا عن إنتاجنا من النفط وقربها من أسواقه أكثر من بلادنا خفضت إنتاجها (300) ألف ب/ي وكان من المفترض أن لا نفرط ببرميل واحد من إنتاجنا ليكسبه منتجون غيرنا، وهذا مجرد رأي شخصي.
ثم إنه ليس في جعبة الأوبك في تاريخها لتحسين الأسعار سوى معادلتي الإنتاج والأسعار، ثم إن الحوار المستمر مع الدول خارج الأوبك هام جدا لصناعة النفط ففي تدعيم التعاون الذي توصلت إليه المنظمة مع الدول المنتجة خارجها ومحاولة تضييق شقة الخلاف بينها وبين الدول الأخرى من خارج الأوبك دعما لإستقرار سوق النفط الدولية.
ولا شك أنه من الأهمية القصوى للدول المنتجة للنفط خاصة دول مجلس التعاون الخليجي حماية لمصالحها حاضرا ومستقبلا أن تضع خطة نفطية مدروسة بحصافة ودقة لرصد حركة المخزون النفطي وطبيعته وحجمه.
فبقدر أهمية هذا المخزون الذي يدفع بالأسعار إلى أدنى أو يرفع حركتها بالنسبة للدول الصناعية فهو لا يقل أهمية بالنسبة للدول الرئيسية المنتجة خاصة المملكة والإمارات والكويت وقطر.. الخ.