عبدالعزيز السماري
لأسباب لها علاقة بإرث الجمود والإنغلاق، كانت ولازالت التحولات في شخصية «المطوع» بمثابة ترموتر قياس التغيير في المجتمع، فالمطوع قد يصبح بين ليلة وضحاها نجم إعلامي مشهور إن أظهر بعض التساهل في أمر مرغوب بين العامة، ويذكر التاريخ منعطفات في هذا النسق، ولعل أشهرها فتوى اعتبار الطلاق بالثلاث طلقة واحدة، وكانت بمثابة التحول الكبير في زمن كانت تحكمه ذهنية التشدد والمحافظة.
الفنون الشعبية على سبيل المثال تراث موجود في جزيرة العرب منذ القدم، والفنان الشعبي جزء لا يتجزأ من ثقافة الناس اليومية، لكنها كانت تُواجه طوال العقود الماضية تحريماً شديد الغلظة من قبل علماء الدين، ولهذا أصبح أول مطوع يقول بأن الموسيقى حلال نجم جماهيري كبير، وحظى بالقبول الاجتماعي عند الكثير.
كذلك كان أول مطوع يدخل نادياً كروياً نجم شعبي في فترة سابقة، وكانت له جماهيرية طاغية بسبب خطوته الأولى في عالم كرة القدم، واعتبر ذلك بمثابة التحول في الموقف التحريمي ضد لعبة كرة القدم، أو اللعب على درع الدوري العام، وبعد دخول المطوع الشهير النادي الكروي برزت ظاهرة اللاعب المطوع، والمشجع المطوع، وأصبح لدينا لاعبون ومشجعون من طلبة ومشائخ العلم الشرعي، فُيقال الشيخ والمشجع النصراوي والداعية اللاعب الهلالي وهكذا.
أذكر جيداً في زمن تحريم الصور الفوتوغرافية، أن «المطاوعة» كانوا يرفضون التصوير لحجة أن فيها مضاهاة لخلق الله عز وجل، وقد كانت البطاقة المدنية، أو الكتيب الشهير الذي كان يطلق عليه «التابعية»، لبعض كبار علماء الدين، يخلو من الصورة الفوتوغرافية، ولكن مع الانتشار الطاغي للتصوير اختار بعضهم أن يكسر التابو المحرم عندما قبل بظهور ملامح وتفاصيل وجهه الكريم لأول مرة في صورة فوتوغرافية، وكانت بمثابة الفتح العظيم الذي أطلق العنان لتحول جديد في المجتمع.
بعد ظاهرة الإعلام الفضائي والقنوات الإخبارية، حظي المطاوعة المتحولون بأكبر فرص إعلامية في تلك الفترة، وكانت أبواب الشهرة مفتوحة لأحدهم بمجرد أن يبدي تحولاً في نهج طوعه وإنغلاقه، وكان أول إشارات التحول أن يضع عقالاً أسود لتنظيم فوضى شماغه الأحمر العارمة، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة تهذيب اللحية، ليتناسب مع المرحلة المقبلة.
في مجتمع المطاوعة منذ القدم، كان هناك دوماً أولويات، وقد نحتاج إلى بحث مطول لرصدها، مثل أول مطوع سافر إلى الخارج، وأول مطوع لبس العقال، وأول مطوع صوّر فوتوغرافياً، وأول مطوع ظهر في التلفزيون، وأول مطوع أرسل ابنته للمدرسة، وأول مطوع لعب بلوت، وأول مطوع اقتنى جوالاً بكاميرة، وأول مطوع اختلط مع النساء، وهكذا..
بعد هذه التحولات الكبرى في شخصية المطوع، لم يعد هناك مطاوعة بالنمط الأصيل لما قبل ثورة الأولويات، إلا ربما شخصية واحدة، وتستحق لقب المطوع الأخير بلا منازع، وهو الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد -حفظه الله-، والذي رفض كل الأولويات، واستمر في نفس هيئة وتقاليد ومبادئ المطوع الأصيل، ولم يتزحزح قيد أنملة عن مواقف المطوع الأصيل من العصرنة بمختلف أوجهها.
يمثل الشيخ، وهو من عائلة ثرية ومشهورة في (بريدة) النمط التاريخي العريق لشخصية المطوع الحقيقية في تاريخ جزيرة العرب، فهو لا يزال يعيش في بيت طيني متواضع، ليس فيه من مقومات الحضارة الغربية شيء واحد، لا يركب السيارات، ولا يستعمل الكهرباء، أو الغاز، ويركب الخيل، ويرفض التصوير، ويستعمل السراج، ويطبخ على الحطَب، ولا يستعمل من العملات إلا الحديد لأنها خالية من الصور.
هذه دعوة لتقدير شخصه الكريم بما يناسب إرثه العريق، وللاهتمام به، وهو صاحب الشخصية الفريدة، والتي تساهم بشكل استثنائي في نقل شخصية المطوع الأصيلة بدون تحريف أو تزييف إلى عصر القرن الواحد والعشرين، وكأنها تقول لكم أنا المطوع الأخير في هذا العصر.. كرموه قبل فوات الأوان، أطال الله في عمره وألبسه ثواب الصحة ولباس العافيه.. اللهم آمين.