رمضان جريدي العنزي
ما غابت شمس بلادي، لا نامت ولا استراحت، ولا مال ظلها، أنما حامت وأناخت واستقرت فوق هامات النخيل، كي نجني من عذقها رطباً شهياً نضجاً، يا لتباشير السعادة، شجرة الياسمين في صحرائنا فاق سحرها، والبنفسج صار لوناً نبتغيه، يا بلادي، يا باب من غير رُتاج، يا مهابة، يا فخامة، يا ظل جديلة، يا أنيقة، يا روابي، يا صرح مرايا، وجيش منايا، وبريق قمر، يا دليل، يا مواسم ناضجة، يا هالة، يا واحة الخير، يا وطني، مثل نسر أنت ما ضرته الطيور التي في السماء، يا نشوة التاريخ، يا الانتشاء، يا صدر الأمة، يا الذي غطت أفعاله الخيّرة الورى، فأعمالك الخيّرة الكثيفة موثقة باقية، وأعمال غيرك الشحيحة طواها الردى، ما كان للمجد لغيرك مكانه، وتبقى وحدك للمجد متجسماً، البطولة وحدك تضمها، متسيداً متصدراً متنعماً، لا أرض غيرك أرض، ولا نخيل الآخرين يشبه نخيلك، آبار غيرك جفّت، إلا آبارك، كل البلدان يسرقها الغزاة، ويتجرأ عليها اللصوص، إلا أنت يموت الغزاة عند أسوارك، وينهزم اللصوص، عطور العالم كلها برائحة الدم والبارود، إلا عطورك، شذى الورد والفل والنرجس، مدن العالم فارقها النور بعد أن حلَّ فيها الظلام، إلا مدنك، صارت ملاذاً للعصافير والبلابل والفراشات الفاخرة، جلّ العالم يتعبون بتزيين المقابر، وحدك ناسك يزيِّنون البيوت والحدائق والروابي والمداخل والمخارج، جلّ ضحكات الآخرين صفراء، إلا ضحكاتك، صحاري الآخرين عدم، إلا صحاريك، واحات نخيل، وجنات فسيحة، بحار الآخرين كما هي مالحة، إلا بحارك، صارت مثل ينبوع ونهر، مرافئ غيرك متعطّلة خائفة، إلا مرافئك هانئة عاملة آمنة، سواحل غيرك موت محقق، إلا سواحلك قصائد انتشاء وعافية، للآخرين صخب وعطش وهوس، إلا أنت، لك هدوء وتخيل وعاطفة، مدن الآخرين معرشة بالخوف والتوجس والظلام، إلا مدنك مزروعة بالدهشة، وحبلى بالعافية، عرائش العنب والتوت وبساتين التفاح عند الآخرين هناك ماتت، والنهر شح، والضرع جف، والعافية مالت، والفرح غاب، والأفواه أصبحت صارخة يائسة بائسة، لم يعد التوت هناك توتاً، ولا الكرز كرزاً، ولا لون البرتقال لوناً، ولا الدالية دالية، ولا الحقل حقلاً، الأفواه هناك تعوّدت طعم المرارة، ورشف الدماء، وأنت ما زال جناحك رحمة، وعطاؤك بهاء، ونورك نور، وفراشاتك ساكنة، وقلبك يتطلع لفجر جديد، جعب الآخرين مليئة بالرصاص، وأفواههم لاثغة، وحكاياتهم جلّها عن الموت والجوع والمدن الزائلة، بنادقهممصوّبة نحو الضوء، ولغتهم قاتلة، ولهم جنون يفيض، وحتى العفاف جردوه من ثياب العفاف، وألبسوه ثياب الخراب، هم يرقصون بانتشاء على نوحها، وينامون ببذء على زندها، حياتهم قلق على قلق، مصابون بحمى الخراب، وحمى الاكتئاب، ويكسرون كل باب، وحتى مواويلهم خراب في خراب، حياتهم جمراً ورماد، ومآل ظنون، مارقون من اللايقين، يحاولون مد أذرعتهم لاحتواء المدى، لكنهم لا يقدرون، أرواحهم جفاء، تهاويم لغة، ويدغدغون أرواحهم بالكلام، أفنوا حياتهم بنزف البنادق، والأحلام الغابرة، والمعارك الخاسرة، والخمارة، ومواخير البغاء، انتفضوا على كل عرف، ومزقوا الستر، ونبشوا السر، وخطاهم كلها ماكرة، ويدعون بعضهم لاقتسام الغنائم الحرام، وأنت يا وطني صفوك يعطِّر ثوبك، ومواسمك ربيع، وحقلك يانع، وصحراؤك عطاء، وناسك نبلاء، نشهد باسمك، ونغتسل بماء وردك وعطرك، لك ضوء، ومنارة، وشعلة، ظلك يكبر، وصوتك يعلو، وترياقك نفع، وحائطك سند، ولك هالة وحالة وانبثاق، غيرك يقتل الحلم، وأنت تشعل الحلم، وخطوطك لها ألوان مغايرة، لك المجد، ولهم فتات الخسائر، كلهم إلى المجهول راحل، وحدك ثقيل المقام، وفيك يحيا الإنسان، يا رحيق القرنفل، يا ضوع الحدائق، ما خبأ الحلم فيك، وليس له غير وجهك يدله، يا ظل الرفيق، حين تجيء العواصف غاضبة، والفنار بعيد، وما من سفين يقل الغريب، ستبقى وحدك للغريب قريب، يا عبق القلب، يا عقيق، الحواة يداعبون الأفاعي، أضاعوا الطريق وضاعوا، في حلوقهم غصّة وطعم حريق، يعشقون سود الكوابيس، ويكرهون البريق، يا وطني يا سيد الأوطان، في خطابك سحر نصوص، وهمة نفوس، كم توارى بقوة فعلك جمع اللصوص، يا وطني، يا سيد الأوطان، كيف أخذتنا من قحط البراري، وجدب الصحاري، وجفاف المكان، وجعلتنا نعرف كيف نسافر عبر البحار، إلى المدن النائية، وكيف نغوص، من ترى مثلك يستطيع البناء؟ بهذا الفناء؟ يزرع الورد بقيظ الزمان، وقيظ المكان!، غير أنت، شغلت نفسك بالعطاء، وغيرك اشتغل بحب النقيق، وحب العواء، هذا أنت خطاك خطى، تسعى إلى المجد وإلى الأضواء، وغيرك غدا مثل الحمام فريسة، يأكل من لحمها الغرباء.