د. فوزية البكر
يتعلم أطفالنا لغتهم المحكية من خلالنا وذلك عن طريق محاكاة ما نتفوه به من كلمات دارجة وبذا فهم يتعرفون مثلا على (الشباك) أو هو (الطاقة) في بعض المناطق في حين يكونون مضطرين لتعلم لفظ جديد لنفس الشيء بعد الدخول للمدرسة وهو لفظ (النافذة) في حين لا يكون الأطفال في ثقافات ولغات أخرى مثل تلك الناطقة باللغة الإنجليزية مضطرين لذلك لتوحد الكلمات ما بين اللغة المحكية والمكتوبة.
هذه الثنائية اللغوية للغتنا العربية تولد ثنائية فكرية فما قد نفكر فيه قد لا نستطيع فعليا وضعه في قوالب لغوية مقروءة مما يولد صعوبات في التعبير كما يولد علاقة (ثنائية) بلغة حميمة هي (العامية) ولغة رسمية هي (الفصحى الكلاسيكية) فكيف نوفق بين هذه الثنائيات في لغتنا العربية؟
استطاع الدكتور السوري عبدالله الدنان ومنذ السبعينيات أدراك ذلك فتوصل إلى طرق مبتكرة تحفظ للأطفال تعلم العربية الفصحى منذ ولادتهم لكن في ذات الوقت تحفظ لهم تعلم اللغة العامية المحكية في أوساطهم حتى يتمكنوا من التواصل مع من حولهم. قام بتجربة ذلك على أولاده أنفسهم ومنذ ولادتهم فبدء بالتحدث مع ابنه باسل الذي ولد عام 1977 بالعربية الفصحى فيما بقيت الأم تحدث طفلها بالعامية وما أن بلغ الابن الثالثة من عمره إلا وكان يتحدث الفصحى محافظاً على الحركات الأعرابية وهو ما كرره مع ابنته لونا التي ولدت عام 1981 التي أجادت الفصحى هي أيضا وبحركاتها من رفع وضم ونصب منذ سن الثالثة بما حقق رفع الذائقة اللغوية لأبنائه لتذوق وتجويد اللغة كما فعل أبناؤنا الأوائل.
والفكرة ظهرت مع دكتور الدنان أثناء دراسته للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم اللغوية التطبيقية بجامعة لندن، حيث درس ما كشفه علماء اللغة منذ زهاء نصف قرن وهو أن الأطفال منذ ولدتهم وحتى سن السادسة تكون أدمغتهم مهيأة لتعلم اللغة بتراكيبها المعقدة عبر جهاز اكتشاف اللغة الذي يسمى باللغة الإنجليزية لانجويج اكويزيشن ديفايس التي تمكن الطفل من كشف قواعد اللغة (أية لغة) ذاتياً ثم تمكنه تدريجياً من محاكاتها وإنتاجها وهو ما يسمى في علوم اللغة بطريقة الاكتساب الفطري لكن هذه القدرة تبدأ في الضمور مع سن السادسة، حيث تتغير بيولوجية الدماغ لتتحول من تعلم اللغات إلى تعلم المعرفة وهو ما يسمى الطريقة المعرفية التي يتعلم فيها الطفل (قواعد اللغة) حتى يستطيعوا محاكاتها مما يصعب تعليم اللغة على أبنائنا كلما كبروا.
ما طرحه دكتور الدنان طبق بنجاح في مئات المدارس عبر عالمنا العربي بما فيها السعودية، حيث قام أثناء وزارة دكتور الرشيد -رحمه الله- بتدريب مئات من معلمات رياض الأطفال في عدد من مدن المملكة للتحدث مع الأطفال بالعربية المبسطة طوال يومهم المدرسي وهو حقق نجاحات باهرة في تعلم اللغة وحبها بين طلاب المدارس.
لغتنا العربية لا تحتاج الكثير للدفاع عنها فهي باقية قوية ما بقي القرآن الكريم نبراساً نهتدي به، لكن هذا الكلام لا يكفي فكم من حولكم من الأطفال من يستطيع أن يعبر عن نفسه ومشاعره (وحتى بلغة عامية) دون أن تتداخل عشرات الكلمات الإنجليزية المكسرة (لغة العاملات المنزليات) عدا عن عجز طلاب المدارس والجامعات من كتابة فقرة كاملة بلغة عربية سليمة.
لا أقول هذا للتأنيب فأنا أكثر من يكره لوم الآخرين لكن الحقائق المعاشة صارخة بما فيها من أحبهم من حولي ولا أعرف في الحقيقة كيف يمكن لنا استرجاع طرق ناجعة مثل تلك التي استخدمها دكتور الدنان في روضته في دمشق أولاً منذ الثمانينيات، ثم حاول نشرها عبر محاضراته وورش عمله.
لا أعرف حتى ماذا حدث لهذا العالم الفذ الذي أمتعني الله بحضور بعض من ورش عمله التي لا تنسى في بداية التسعينيات في مدينة الرياض خاصة وسوريا تتخبط الآن في أتون حرب شعواء وقودها دماء العزل والمدنيين في القرى والأرياف وربما كان دكتورنا الفذ إحدى ضحاياها.
أعلموني: هل لديكم طريقة لإرغام الأجيال الحديثة على القراءة باللغة العربية؟ هل من أحد يمتلك مفاتيح ذهبية تمرر سحر اللغة العربية الخلاب إلى عقول ونفوس الأجيال الجديدة في أوطاننا الناطقة باللغة العربية؟