د. جاسر الحربش
زبدة التاريخ تتجمع في كون الأمن التكاملي لأمة ما لا يتحقق سوى بإعطاء الأهمية الأولى للمشتركات الحضارية الجامعة، وهي: اللغة الواحدة بلهجاتها المختلفة، الدين بتنوعاته التعبدية، التاريخ المشترك بإيجابياته وسلبياته، والجغرافيا المتصلة في الحصة الخاصة من الكرة الأرضية.
في هذا السياق تعتبر محاولات التكامل الأمني بين دول مجلس التعاون خطوة أولى صحيحة في الطريق الصحيح، لتوفر الشروط الحاضنة لأعضائها، رغم أن الخطوات أبطأ مما تتمناه الشعوب، ليس الخليجية فقط بل وعرب آخرون يتمنون نجاح أي نموذج.
لكن خارج هذا السياق، من المؤكد أن العرب الشيعة في العراق وسوريا ولبنان فرّطوا في أمنهم المستقبلي عندما انساقوا وراء قادة خونة ثبت فسادهم وراهنوا على إيران. إيران ليست نصفا ً حضاريا ً للعرب الشيعة ولا يجمعهم بها سوى وهم التكامل المذهبي السطحي. الفواتير بدأت تدفعها بالفعل شعوب العراق وسوريا ولبنان بقواسم مشتركة هي انهيار الخدمات وانعدام الأمن، لكن الخوف الحقيقي هو من فداحة الفاتورة التي قد تأتي بعد انكفاء إيران (كحتمية تاريخية)، كردود أفعال لجرائم ارتكبتها الميليشيات باسم الشيعة العرب.
وأيضا ً، مثلما ثبت عند أول اختبار حقيقي أنّ ربط الأمن التركي بأمن دول حلف الأطلسي الغربية وهم كبير، سيثبت قريبا ً أنّ محاولة ربط أمن العراق وسوريا ولبنان بأمن إيران مجرد وهم كبير آخر. نحن شهود الآن على أنه بالنسبة لتركيا لم تَعُد حلب ولا إدلب ولا تلعفر خطوطا ً حمراء كما زعمت القيادات التركية في السابق. الآن أصبحت الحدود الوطنية التركية نفسها هي الخطوط الحمر، ويتركز التحاور حولها مع روسيا كأولوية مقدمة على الجغرافيا الإقليمية للدول المجاورة.
وبنفس القياس لن تنجح محاولات التكامل الأمني لأي دولة قطرية مع دولة من خارج حاضنها الحضاري. قد يفيد التنسيق المؤقت لعبور ظرف طارئ يهدد مصالح الطرفين، لكن هذا شيء آخر غير التكامل الأمني طويل الأمد الذي تطمئن إليه الشعوب وترتاح.
وكمثال من خارج العالم العربي والإسلامي، لماذا تركز بريطانيا دائما ً على التكامل الأمني مع أمريكا وأستراليا وتقدمه على التكامل مع دول الجوار في القارة الأوروبية ؟. للجواب ابحث عن المشتركات في اللغة والتاريخ والبروتستانتية والامتداد الأنجلوسكسوني. كذلك لماذا تبقى روسيا مفصولة ومعزولة عن بقية أوروبا ؟. الجواب لأنها أورثوذوكسية تتكلم لغة سلافية تختلف حتى حروفها عن اللاتينية.
وفي خارج المنطق التاريخي للتكامل الأمني، نلاحظ أنّ قيادات دولتين عربيتين كبيرتين (مصر والجزائر) تراهن على التكامل الأمني مع الخارج بطريقة اللعب على حبلين، الحبل الروسي والأمريكي وتابعهم الإيراني. ليس من المبالغة القول إنّ الجماهير في هاتين الدولتين منفصلة تماما ً عن هذا التوجه لقياداتها وتجاهر برفضه.
على ضوء الأحداث المأساوية أظن أنّ الشعوب العربية في كل دولة قطرية، أصبحت على يقين بأنّ تنافس القيادات القطرية على الواجهات الشعبوية ومظاهر العظمة هو العائق الحقيقي للتكامل الأمني العربي الفعال، القائم على مشتركات اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات ولكنها مشتركة بين الجميع.