د. خيرية السقاف
حيث يكون الإنسان تنبت لقمة, فلا تمر بطريق لا مطعم فيه صغر, أو كبر,
تنوعت مأكولاته أو عُينت,
ولا تحل بمنفذ لا ترى فيه الناس تنخرط في صف طويل, أو تتداخل عند نوافذ الطلبات السريعة,
ولا تقصد مجمعاً تجارياً بكل مواصفاته, ومستوياته, وأدواره, وأغراضه, وأسواقاً بأنواع بضائعها, ومبيعاتها, دون أن تواجهك مساحات كبيرة منها معدة لعشرات, وأكثر من المقتعدين حول طاولات الوجبات, ومنتظرين عند منصات تقديم الطلبات فيها!!
في المقابل هناك نظيراتها المختصة بتقديم ما لذ, وطاب, وتنوع من العصائر, وأنواع المشروبات من القهوة, وألوان الشاي..!
كأنما الناس خلقت لتأكل فقط, وليس أن تأكل لتقوى على العيش..!!
أو كأنها خلقت لتشرب, لا تشرب لتحيا..!!
حتى المبدعين, والزاهدين في بهرجة الحياة يصبِّحون فجرَهم بأبخرة القهوة,
ورائحة أرغفة تصاعد عن الأفران!..
إن أمر الأكل, والشرب فاحش الطغيان بالإنسان المعاصر..
مع أنه يعلم أن كثرة الأكل تميت الهمة, وتثقل الوزن فتقيد الحركة, وتشغل الدورة الدموية فتعطل الذهن,
لكن قليلاً من يعلم أن الزهاد الذين تركوا للبشرية أجمل إرثهم, وآثارهم لم تكن «بطونهم» أكبر همهم, ولا ما يملأها مبلغ علمهم, ولا غاية رغباتهم, بل يأكلون خفافاً, في فاقة أيديهم, أو في ترف يرفلون,
إنهم يتنزهون عن الشره, لذلك تمتعوا بذهن وقاد, وحيوية جوف, فأَثْروا, وأثَّروا..
شخصياً كلما انتشرت المطاعم أكثر, وتدافع الناس على ما لذ, وطاب من أنواع الأكل, والشرب لا أعول كثيراً على الشرهين المتدافعين نحو الاستزادة,!!
فلا أحسب أنهم سينجزون ما تُهتز به أفنان العصافير, وتشيع له الزهور شذاها, وتنبض بأثره دهشة الانبهار, ولو جاءوا بعبارةً بليغة في سطور فاتنة لماحة بناءة!!
فالفتنة الملهِمة لا تأتي من الشبع المفرط, و لا الجسم المثقل, ولا الهمة الراكدة..!!
فالأكل الكثير مفسدة, وتعطيل, وقيد, وتضليل..!!
وإن التقشف في المأكل ليس سمة الحرص كما يذهب رأي كثير من الناس, وليس هو الدليل القاطع عن البخل في الزاهدين, بل وعي أبعد من حدود جدار المعدة, وذائقة اللسان, حين يكون ما يؤكل منتقى, وما يشرب مختاراً وفق حاجة هذه المركبة التي وقودها ليس الإفراط, وإنما الاعتدال الواعي..
فالمراكب من معدن إن ضُخت بمزيد من الوقود, وفاض عن مستودعه, تناثر, وآلت للاشتعال,
فحين جسد المركبة حديدا من صنع الإنسان,
وجسد المرء نسيجا من صنع الرحمن,
فإن حريقاً يُبقي, حين يشتعل الذهن في الإنسان من فرط حيوية جسده, ويقظته متحللا مما يثقله بنهم الأكل, ويخيم عليه بخمول وكسل الجسم..
وإن حريقا يُفني من فرط الوقود, حين يفيض في جسد مركبة من معدن عن حاجتها, فلا ينذر بغير اشتعالها ففنائها..!!
الناس تحتاج لأن تعيد التخطيط, والتنفيذ لسلوكها الغذائي, لتصبح سليمة معافاة, فمتقدة الذهن, بناءة الفعل.