د.عبدالإله ساعاتي
الجامعات هي صروح العلم ومنارات المعرفة ومراكز الإشعاع الحضاري.. وفي مجتمع معظم مواطنيه من الشباب الناهض في بلادنا.. يتجسد الدور المهم للجامعات في التنمية الوطنية وفي تحقيق رؤية المملكة 2030.. وذلك من خلال بناء الإنسان واستيعاب الشباب -أهم ثروات البلاد- وتسليحهم بروافد العلم والمهارة والمعرفة.. إلى جانب دور الجامعات في التموضع كمركز تنويري في المجتمع.
يقول سمو الأمير محمد بن سلمان في افتتاحية رؤية المملكة 2030م: «في بلادنا ثروات سخية.. ولكن أهم من هذا كله ثروتنا الأولى التي لا تعادلها ثروة مهما بلغت، شعب طموح معظمه من الشباب، هو فخر بلادنا وضمان مستقبلنا -بعون الله تعالى-، ولا ننسى أنه بسواعد أبنائها قامت هذه الدولة في ظروف بالغة الصعوبة عندما وحدها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- وبسواعد أبنائه سيفاجئ هذا الوطن العالم من جديد».
والواقع أن أكثر من نصف السعوديين تقل أعمارهم عن (25) عاماً وهذه ميزة يجب استثمارها من خلال التعليم العالي.
ويضم هيكل التعليم العالي في بلادنا (38) جامعة حكومية وأهلية منها (28) جامعة حكومية و(10) جامعات أهلية.. إلى جانب عشرات الكليات الأهلية.. ويستوعب التعليم العالي نحو 90 في المائة من خريجي وخريجات المدارس الثانوية.
ولعل من المعروف أن هناك فجوة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل أشير لها بوضوح في رؤية المملكة 2030.
ولهذا فلقد نص الهدف الاستراتيجي الخامس لوزارة التعليم على التالي: «تعزيز القيم والمهارات الأساسية للطلبة وتعزيز قدرة نظام التعليم لتلبية متطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل».
ولقد أكدت رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 على الدور المتعاظم للجامعات في المرحلة المقبلة.. ذلك أن الرؤية والبرنامج أكدا دور الجامعات في تأهيل الكوادر البشرية المواطنة تأهيلاً نوعياً يتناسب مع احتياجات المرحلة المقبلة.. بحيث تلبي احتياجات سوق العمل ومتطلبات التنمية.
وأستطيع القول إنه لم يعد مبدأ (التعليم من أجل التعليم) صالحاً للزمن الحالي والمستقبلي وفقاً للرؤية الوطنية التي جاء في مستندها شعار (نتعلم لنعمل) بمعنى أنه أصبح هناك تأصيل لمفهوم جديد عنوانه: (التعليم من أجل التعليم.. من أجل التنمية). وهذا ما يجب أن يكون، ذلك أنه من غير المقبول أن تظل جامعاتنا تخرّج طلاباً وطالبات في تخصصات ليس لها حاجة في سوق العمل وبالتالي يتحول الخريجون والخريجات إلى عبء على التنمية وينضمون إلى قائمة البطالة.. بدلاً من أن يتحولوا إلى طاقات فاعلة في تنمية المجتمع. وهو ما لم يعد مقبولاً في ظل الرؤية الوطنية الجديدة.. لأنه أوجد فجوة واسعة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات التنمية وسوق العمل.
ولذلك جاء من ضمن أهداف رؤية المملكة 2030 الخاصة بالتعليم التالي: «سد الفجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل».
وجاء من أهدافها أيضاً: «توجيه الطلاب نحو الخيارات الوظيفية والمهنية المناسبة».. وهذا توجه يؤكد ضرورة ربط برامج التعليم الجامعية بالوظائف المتاحة في سوق العمل وفق الاحتياجات المتغيرة.
بل ذهبت الرؤية الوطنية إلى أبعد من هذا حين استهدفت تطوير المعايير الوظيفية الخاصة بكل مسار تعليمي. وهو ما يقود إلى ربط وثيق بين البرنامج التعليمي للطالب وبين وظيفته المستقبلية عقب تخرجه.
وحيث إن الرؤية الوطنية وضعت هدف خفض معدل البطالة من 11.6 في المائة إلى 7 في المائة، إضافة إلى إنشاء (هيئة توليد الوظائف) بهدف العمل على تحقيق هذا الهدف.. فإن للجامعات دوراً كبيراً منتظراً في هذا الصدد، وذلك من خلال تخريج كفاءات وطنية مؤهلة ومتخصصة في تخصصات يحتاج إليها سوق العمل.. وليس تخريج خريجين في تخصصات لا يحتاج إليها سوق العمل وبالتالي ينضمون إلى قوائم العاطلين ويرفعون نسب البطالة.
ويتطلب ذلك تحولاً هيكلياً في التخصصات الجامعية.. حيث إن هناك تخصصات جامعية لها حاجة ماسة في سوق العمل في وقت لا تلقى قدراً كافياً من الاهتمام الجامعي.. وما زالت التخصصات النظرية تحتل مساحة واسعة في ميدان التعليم الجامعي.. في وقت تظل هذه التخصصات في معظمها بعيدة عن احتياجات سوق العمل.
ولقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن نسبة الخريجين في مجال العلوم الهندسية والصناعات الإنتاجية والبناء في المملكة أقل من نظرائهم عالمياً بنحو 7 في المائة؛ إذ تبلغ نسبة الخريجين من العلوم الهندسية محلياً نحو 5.3 في المائة من إجمالي الخريجين بالجامعات السعودية، بينما المتوسط العالمي 12.5 في المائة، بينما تبلغ نسبة خريجي الدراسات الإنسانية في الجامعات السعودية أعلى من المتوسط العالمي بنحو 20 في المائة، ذ بلغت نسبة خريجي الجامعات السعودية في هذه التخصصات نحو 32.6 في المائة، بينما المتوسط العالمي 12.2 في المائة، وذلك حسب دراسة نشرتها جريدة الاقتصادية.
وفي هذا الإطار جاء من أهداف الرؤية الوطنية فيما يختص بالتعليم.. هدف تطوير المعايير الوظيفية الخاصة بكل مسار تعليمي.. وذلك استهدافاً لربط التعليم بالوظيفة، وذلك تحوّل مهم ومطلب ملح على الجامعات العمل عليه وفق أسس علمية مدروسة.
وحيث إن نحو 95 في المائة من الفرص الوظيفية متوافرة في القطاع الخاص.. فإن من الضرورة بمكان أن تحرص جامعاتنا على بناء جسور التعاون والتنسيق والتفاعل والشراكة مع القطاع الخاص وتلمس احتياجاته الوظيفية وإشراكه في عملية تصميم المناهج والخطط الدراسية.
وحري بنا الإشارة إلى أن دور الجامعات لا يقتصر على ذلك فحسب.. بل يمتد إلى بناء شخصية الإنسان السعودي الناهضة الواعية المؤهلة -كما جاء في الرؤية الوطنية التي نص أحد أهدافها الخاصة بالتعليم على دعم وتعزيز ممارسة الأنشطة الثقافية والتطوعية والرياضية واكتشاف المواهب.
والخريج الجامعي المتكامل الشخصية يمتلك مقومات يستطيع بها خدمة وطنه بشكل أكبر وبتأثير فعال.. ويكتسب مناعة الوعي والإدراك التي تبعده -بمشيئة الله تعالى- عن الوقوع في براثن الانحلال والضلال.
وأناطت الرؤية الوطنية وبرنامج التحول الوطني دوراً متعاظماً للجامعات في ترسيخ القيم الإيجابية لدى الشباب.. حيث نصت الرؤية الوطنية على الهدف التالي: «ترسيخ القيم الإيجابية في شخصيات أبنائنا عن طريق تطوير المنظومة التعليمية والتربوية، وتوفير تعليم قادر على بناء الشخصية «.
وهذه الأهداف التي نصت عليها الرؤية الوطنية تتطلب من الجامعات -في تصوري- إعطاء الجانب التربوي اهتماماً أكبر مما هو عليه حالياً.. فتحقيقها يتطلب تكاملاً تعليمياً تربوياً.. بينما التركيز في جامعاتنا حالياً وبشكل كاسح على الجانب التعليمي.
كما أكدت الرؤية على أهمية تطوير إمكانات الإنسان السعودي وتسليحه بالمهارات والمعارف النوعية واعتبرت المهارات خصوصاً من أهم موارد البلاد، حيث نصت على التالي: «تعد مهارات أبنائنا وقدراتهم من أهم مواردنا وأكثرها قيمة».
وأكدت الرؤية على مواصلة الاستثمار في التعليم وتزويد أبناء الوطن بالمهارات والمعارف اللازمة لوظائف المستقبل.
كما أكدت على دور الجامعات في برنامج رأس المال البشري وعلى تبني مناهج تعليمية متطورة تركز على المهارات الأساسية.
وهذا التركيز على (المهارات Skills) الأساسية يتطلب تحولاً مطلوباً في سياسات الجامعات التي تركز حالياً في مناهجها على
(المعارف Knowledge) بشكل أساسي واضح.. وتركيز الرؤية على المهارات.. هو تركيز على ما يحتاج إليه سوق العمل الذي يرغب في قوى عاملة ماهرة. كما يتطلب هذا التحول تركيزاً أكبر على التطبيقات العملية في المناهج الجامعية.. التي لا تحظى في الوقت الحالي بالقدر الكافي من الاهتمام.
وهناك جانب مهم جاء في الرؤية الوطنية، حيث نصت على التالي:
«إتاحة الفرصة لإعادة تأهيل الشباب والمرونة في التنقل بين مختلف المسارات العلمية».
حيث إن هذا غير متاح حالياً في جامعاتنا إلا في حدود ضيقة.. بينما هو أمر مهم واهتمام الرؤية به يعتبر أمراً رائعاً.. حيث إنه يتيح للشاب اختيار المسار العلمي الذي يرى نفسه فيه ويميل إليه، وبالتالي يتحقق مع الرغبة والميول الإبداع والإتقان.
وإلى جانب ذلك فإن هذا الهدف يستدعي من الجامعات تنظيم برامج (إعادة تأهيل) بحيث يتم انخراط الطالب خريج التخصص غير المطلوب في سوق العمل في برنامج إعادة تأهيل ليتم تأهيله وإعداده في تخصص مطلوب في سوق العمل.. على سبيل المثال خريج الجامعة تخصص تاريخ (تخصص غير مطلوب في سوق العمل).. من الممكن إلحاقه ببرنامج إعادة تأهيل في مجال السجلات الطبية (تخصص مطلوب في سوق العمل).. وهكذا.
وهناك دور مهم منتظر للجامعات في مجال ريادة الأعمال والابتكار.. ولهذا الجانب أهمية مستقبلية أكبر.. ولهذا ركزت عليه الرؤية الوطنية حيث جاء فيها ما نصه: «سنركز على الابتكار في التقنيات المتطورة وريادة الأعمال».
كما حددت الرؤية هدف رفع مساهمة المنشآت المتوسطة والصغيرة من إجمالي الناتج الوطني من 20 إلى 35 في المائة.
ولريادة الأعمال أهمية كبيرة في التنمية الاقتصادية وفي توليد وظائف وأعمال وخفض معدلات البطالة، حيث تستهدف الرؤية خفض معدل البطالة من 11.6 إلى 7 في المائة، كما أشرنا آنفاً.
ومن المعروف أنه مهما توافرت وظائف في أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص فإنها لا تكفي الأعداد المتزايدة من الخريجين الجامعيين.. ولهذا يتوجب على الجامعات السعي لتبني مبادرات علمية متطورة في مجالات ريادة الأعمال وصقل مواهب الابتكار لدى الطلاب والطالبات وتطوير منتجاتهم وأفكارهم الإبداعية وترسيخ ثقافة العمل الحر في المجتمع.
ومن المؤسف والمستغرب أنه لا يوجد في جامعاتنا حالياً أي برنامج دراسات عليا في مجال ريادة الأعمال ولا على مستوى البكالوريوس -على حد علمي-.
وتزداد أهمية دور الجامعات في هذا الشأن بعد أن أشارت بعض الدراسات إلى أن ريادة الأعمال على أهميتها المتزايدة عالميا.. ما زالت في المملكة تتقدم بشكل بطيء نسبياً رغم إدراك أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودورها في الاقتصاد والتنمية.
وحيث إن من أهداف الرؤية الوطنية (رفع كفاءة الإنفاق).. فإن على جامعاتنا أن تكون نموذجاً في هذا المنحى.. وذلك ليس من خلال «التقتير» في الإنفاق.. وإنما من خلال التحول إلى (جامعات منتجة).. وهذا توجه عالمي.. بمعنى أن تقوم الجامعات بتوفير مصادر للتمويل الذاتي.. عبر تقديم منتجات تعليمية.. مثل البرامج التعليمية والتدريبية المختلفة وعلى مختلف المستويات.. سواء كانت برامج دراسات عليا أو برامج الدبلومات المختلفة.. وذلك في تخصصات يحتاجها سوق العمل.. ولكن بعيداً عن برامج الانتساب.. التي أرى أنها لا تقدم تعليماً جامعياً.. وهي معوق كبير أمام جهود الحصول على الاعتمادات الدولية، حيث ترفض هيئات الاعتماد الاعتراف بمثل هذه البرامج، التي ينبغي إيقافها.
وأيضاً من موارد التمويل تفعيل مراكز البحث العلمي للجامعات وبناء شراكات مع القطاع الخاص.. وتقديم الاستشارات المختلفة للقطاعات العامة الحكومية والخاصة الأهلية.
وكذلك أن تقوم الجامعات بتنفيذ مشروعات الأوقاف التي تدر دخلاً مالياً جيداً يساهم في تمكينها من تمويل ميزانيتها وتمويل برامجها التعليمية وأبحاثها العلمية، وذلك من خلال استثمار توافر المساحات الواسعة التي حظيت بها جميع جامعاتنا من الدولة، وتشمل مشروعات الأوقاف تشييد فنادق وأبراج سكنية ومراكز تجارية وغيرها.. ويمكن تنفيذ هذه المشروعات بالتعاون مع القطاع الخاص من خلال ما يعرف بنظام الـBOT بحيث يقوم القطاع الخاص ببناء هذه المشروعات واستثمارها سنوات معينة ثم تعود ملكيتها للجامعات.
ومشروعات الأوقاف موجودة في معظم الجامعات العالمية في الدول المتقدمة، ولها دور كبير في توفير الموارد المالية اللازمة لتسيير هذه الجامعات.
وختاماً، أسأل المولى -عز وجل- أن يوفق الجميع لخدمة الوطن وإنسانه، في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-.