د.فوزية أبو خالد
ثمة رئيس تحرير كرسيه من ريح لا يرحم حزن الحبر ولا عتمة الشاشة ولا عصيان الفكر ولا تسمر حروف لوحة المفاتيح وانشكاكها في لحم كفي ومفاصل أصابعي كلما اقترب موعد المقال أو أردت أن أمد يدي إلى عقارب وقت الكتابة.
فتلك الكارثة الكونية على أرض حلب التي سحلت الأطفال وجففت حليب المرضعات وأراقت ماء وجه الإنسانية أمام مرايا الذات والعالم وذلك المنحدر السفلي المتهاوي لأشرس حرب ضد كل ما عرفته البشرية من أخلاق وقيم ومبادئ أولية وليس ضد أهل حلب وحسب لا تحتمل وقفات الصمت ولا البكاء ولا الصدمة. فثمة قارئ نهم لا يقل قلقًا ولا هما عن الكاتب وثمة صحف لا تستطيع أن تؤجل بزوغ النهار وإن أطبقت الحلكة على كامل الأفق السياسي. ولذا فليس لي أن أؤجل المواجهة على الرغم من فداحة وجعي وتقرحات خجلي وجزع ضميري وعلى الرغم من ابتهالات سحري.
وما أن أكتب الحرف الأول من كلمة حلب إلا وتتحدى خبرتي التاريخية في التراجيديا الوجودية وفي المأساة السياسية وفي الهزائم العسكرية وفي اللواعج الوطنية وفي المغارم الشخصية كل الكلمات الناتئة المائية المتمردة الصلبة الشفيفة القوية اللينة الأسرة المتحررة التي تبدأ بحرف الحاء من كلمة حرية وحب إلى كلمة حلب وحياة ومن كلمة حنظلة وحطين إلى كلمة حبر وحلم ومن كلمة حنطة إلى كلمة حلب.
وبهذا التشابه الشعري الموحي بين اسم حلب وبين كل الكلمات التي اخترعتها اللغة عبر تاريخ الاجتماع الكوني لتكوين كلمة حق، فإن الحرب على حلب لا تكون قد حولت تلك المدينة المسالمة إلى بؤرة لصراع الشر ضد الخير بالمعنى السياسي والعسكري المحدود وحسب بل إنها فعلت ذلك الفعل الشنيع بالمعنى الفاره المطلق الذي يجعل من قتل شعب أعزل وقتل كامل المنجز الأخلاقي والقيمي الإنساني لجميع الحضارات والأديان هو الشرط اللازب لحصول الشر على البطولة المطلقة في الحرب على حلب وفي حصارها وفي تتويج الذئاب البشرية المسعورة بأكاليل الدم للاستيلاء عليها.
فهل تبكي حلب أو نبكي حالنا الذي جعل البعض منا يشيد من شدة العمى السياسي والهلع الهولاكي الهتلري برحمة العدو الإسرائيلي في وحشيته وعدوانية احتلاله الاستيطاني على أرض فلسطين مقارنة بوحشية كواسر قوى الشر الرباعية على الأرض السورية والمتمثلة في فاشية سلطة النظام والميليشيات الإيرانية وآلية الجيش الروسي العسكرية الاحتلالية ومباركة أمريكا وإسرائيل على اعتبار أنهما اثنان في واحد.
هل نكتب المراثي على سقوط حلب في الأيدي القذرة لسلطة بشار وميليشيات ملالي إيران بدولتها الدينيةالطائفية المغلقة وجيش روسيا المعتدي على إرادة الشعب السوري في إسقاط النظام ومحاكمة الطاغية أو الأولى بالمراثي هي هذه المنطقة المطوقة بعدد من الأعداء الاستراتيجيين الذين لا يرون مجدهم إلا بزوالها عن طريق كسر شوكة شعوبها وتعزيز ديكتاتوريات الأنظمة التي لن تسمح بأن تقوم قائمة لتلك الشعوب.
لقد رأينا كيف عمل التدمير العشوائي والمنظم على الرغم من المقاومة المدنية العزلاء على تحويل حلب في ظرف ثلاث سنوات إلى جورينكا جديدة للقرن الواحد وعشرين لتكون صورة مكبرة ومعمقة للدمار الشامل الذي لحق بمدن سوريا عصية أخرى على يد نيرون دمشق بمساعدة مخالب النظام الإيراني الديني الانعزالي وبمساعدة روسية كممثل للقوة الإمبريالية الغاشمة. وقد جرى ذلك لمن يقرأ الجراح بنفس النهج التدميري الممنهج الذي جرى على مدى سنوات منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وأيضًا بمؤازرة إيران لتحويل مدن العراق الكبيرة والصغيرة من البصرة إلى الفلوجة ومن الرمادي لأربيل وسواها من مدن العراق العصية إلى مقابر جماعية لتصير حلب اليوم صورة طبق الأصل لتلك المدن المنكوبة.
فما حدث على أرض حلب وعلى الأرض السورية ككل من تمزيق للنسيج الاجتماعي وتقتيل للأبرياء ليس إلا استنساخًا لما لحق بالعراق. فمن يستطيع أن يميز صور مدن العراق الكبرى التي كانت أيقونات للمدن الحضرية العصرية وهي تتحول إلى مرتع للأشباح من مدينة حلب اليوم أو سواها من مدن سورية أبية يتجول فيها الخراب والجوع والموت بحرية كاملة.
فهل هي إذن حلب وحدها لنعلن الحداد أو أن حلب اليوم ليست إلا لسان حال العرب الذين سمحت مآلات ديكتاورياته الطبيعية بأن تصبح تل أبيب وطهران مطبخ العمليات العسكرية الوحشية الموجهة لشعبه بوضع يد طغاته مرة في يد أمريكا كحالة العراق ومرة في يد روسيا كالحالة السورية وفي كل المرات شريك الجريمة البواح إيران و«لا هان» العدو
فوات الإسرائيلي ولا يأتي منه تقصير.