لكل ما يشكله التغريب من خطورة عليها.
خالد بن حمد المالك
يصادف يوم الأحد 19-3-1438هـ الموافق 18-12-2016م اليوم العالمي للغة العربية، بعد أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي عام 1973م بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل بالأمم المتحدة إلى جانب اللغات الخمس الفرنسية والصينية والإنجليزية والروسية والإسبانية، وبذلك تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية السادسة المعتمدة لدى المنظمة الدولية، وحدد هذا اليوم موعداً للاحتفال بها، كما أن لكل لغة من اللغات الخمس المعتمدة يوماً عالمياً خاصاً للاحتفال بها، وهناك احتفال آخر في 21-12-2016 للغات الأم التي يبلغ عددها أكثر من ستة آلاف لغة حيَّة، وقد أطلق عليه (يوم اللغة الأم العالمي) وهدف هذا اليوم الحد من هيمنة الثقافة الواحدة.
* *
واللغة العربية بحروفها التسعة والعشرين بالإضافة إلى الهمزة كحرف تعد واحدة من اللغات العالمية الحيَّة، وتأتي أهمية لغة الضاد من أن الإعجاز القرآني نزل بلسان عربي مبين، ويتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، وهي اللغة الرسمية لـ22 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، ويبلغ عمرها أكثر من ألفي عام، فضلاً عن أن أكثر من مليار ونصف المليار هم عدد المسلمين في مختلف أنحاء العالم ويحتاجون إلى استخدامها في صلواتهم وقراءاتهم للقرآن، وكل ذلك ينضوي تحت ما يمكن أن نقوله من أنها لغة ساهمت ولا تزال في نشر الحضارة الإِنسانية بحكم تنوّعها ثقافياً ولغوياً كلغة حيَّة قادرة على استخدام أدوات التعبير شعراً ونثراً لخدمة الحضارة والثقافة والعلوم الإِنسانية وغيرها.
* * *
ومع هذا فاللغة العربية تواجه تحديات كثيرة، أهمها وليس كلها تدني أو محدودية استخدام اللغة العربية في الأبحاث العلمية والأكاديمية، واستخدام اللهجات العامية في الكلام، وغياب اللغة العربية في تصميم الصفحات الإلكترونية، والاهتمام بإتقان اللغة الأجنبية على حساب العناية والاهتمام باللغة العربية الأم، وإهمال تعليمها والعناية بها في جامعاتنا ومدارسنا، وتشجيع أولياء الأمور لأبنائهم على تعلم لغات أخرى، دون أن يعطوا مثل هذا الاهتمام للغة العربية الفصحى، مع ما للغة العربية من اهتمام كبير بالتراث والثقافة والحضارة، فضلاً عن أنها لغة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
* *
ولست في حاجة للتذكير بأن اللغة العربية الساحرة هي لغة القرآن، وأنه بهذه اللغة الجميلة انتشر الإسلام في أصقاع الدنيا، وأن مسؤولية هذه البلاد قبل غيرها أن تحافظ عليها وتوظفها في كل معاملاتها وشؤون حياتهان وأن أي تقصير أو إهمال في استخدامها بمدارسنا وجامعاتنا وأعمالنا الوظيفية إنما يتجه صوب خدمة اللغات العالمية الأخرى.
* *
فهويتنا الإسلامية والقومية والوطنية ترتبط باللغة العربية، وحضاراتنا وتاريخنا تستمد قيمها من ارتباطها باللغة العربية كتابةً وقراءةً وتحدثاً، فهي لغة حيَّة بمفرداتها ومضامينها وجاذبيتها، بما لا يجوز لكل من هو عربي أن يقلل من أهميتها، أو يدير ظهره لها، أو يفكر بأن هناك ما هو بديل عنها في أي من اللغات الأخرى.
* *
فالمحافظة على اللغة العربية قوية ومؤثرة ولها حضورها الدولي تقع أول ما تقع على المدارس والجامعات، وتمتد هذه المسؤولية إلى كل مسؤول عربي أين كان موقعه في سلم المسؤوليات، وبالمواطن العربي واهتمامه بلغته وتمسكه بها والحرص على استخدامها بضوابطها، وعندئذ لن تشكو هذه اللغة الجميلة من تهميشها وإهمالها والخوف عليها من اللغات الأجنبية التي أصبحت تمارس تهديداً مبرمجاً لاحتلال موقعها.
* *
هذه بعض هموم من يحب لغته، ويذب عنها، ويجد نفسه في موقع المدافع أمام هجمة ممنهجة لغزونا والتأثير على لغتنا، وجعلتنا أسرى للغة أجنبية أو أكثر، تفرض علينا في تعليمنا ومخاطباتنا وتعاملاتنا وكل ما له صلة بحياتنا اليومية، ما ينبغي أن يلقي بظلال من الشعور بالمسؤولية لدى كل منا في مواجهة هذا التحدي، وعلينا أن نفعل هذا الموقف بشكل دائم وبروح من المسؤولية.
* *
ومع أن لكل لغة من اللغات الست الحرية في اختيار وإعداد البرامج والأنشطة لليوم الخاص بها، فإننا لا نجد في بلادنا وفي الدول العربية الأخرى ذلك الاهتمام الذي يكرّس اللغة العربية ويحميها من الموت، فالفعاليات محدودة، وما تقوم به المؤسسات الإعلامية، والمؤسسات الأكاديمية والثقافية والعلمية، ليس له ذلك الأثر الكبير، بينما يفترض أن يصاحب هذا اليوم مشاركة الشعراء والكتاب ووسائل الإعلام والجامعات بإعداد المزيد من البرامج، التي تخدم اللغة العربية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إقامة المعارض والمحاضرات والندوات والعروض التراثية والشعبية، والبرامج الإعلامية المتنوعة وغيرها.
* *
واللغة العربية ضمن ما يمكن أن يُقال عنها هي لغة السياسة ولغة الثقافة والأدب ولغة العلوم المتنوعة، وقد عزز من مكانتها أن الإسلام انتشر بها في عدد من دول العالم، مما أثر في سكان الدول التي حكمها المسلمون، وجعل مكانتها عالية ومهمة لديهم، ومع ذلك فلا زال هناك قصور عربي واضح أدَّى إلى عدم استخدامها الاستخدام الأمثل، في المجالات التعليمية والعلمية والإعلامية، وحتى إدارياً، مما حال ذلك دون أن تكون اللغة العربية هي الأولى عالمياً، مع أن هذا كان مطمعاً وسيظل هاجس الغيورين على لغتهم، المنافحين عنها لا من عناهم الشاعر حافظ إبراهيم ممن استهوتهم اللغات الأجنبية بقوله:
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
* *
نحن لا نتفق مع كل ما يقال بأن اللغة العربية معرضة للانقراض والموت، انطلاقاً من أن الإحصائيات العلمية تتحدث عن أن ما بين 250 إلى 300 لغة تنقرض سنوياً، وأن اللغات تضعف وتموت كما يموت البشر، حتى وإن كانت منظمة اليونسكو في تقرير لها قد أشارت إلى أن اللغة العربية من بين اللغات المهددة بالانقراض، غير أن هذا التقرير يجب أن يوقظنا من رقادنا، فلا نسمح بغزو لغة أجنبية على حساب لغتنا العربية في جامعاتنا ومدارسنا وتعاملاتنا الإدارية، حتى لا ينطبق علينا القول المأثور: الطريقة الوحيدة لقتل شعب تأتي بقتل لغته الأم، وهو ما يجعل من مؤسساتنا، وتحديداً في هذه الجامعة، وبخاصة هذه الكلية في موقع المسؤولية المتقدم في وضع آلية يقتدى بها الآخرون في حماية اللغة العربية من الموت.
* *
وبحكم انتمائي إلى الإعلام - الصحافة تحديداً - أنقل لكم تشخيص حال الصحافة مع اللغة العربية، متفقاً في الرأي مع ما أشار إليه الدكتور فاروق الباز من أن صحافة النصف الأول من القرن الماضي كانت تكتب بلغة جيدة وموثقة، بينما هي الآن ليست كذلك في كثير من الصحف العربية ووسائل الإعلام الأخرى، مضيفاً أن من المهم استخدام اللغة العربية الصحيحة في مختلف وسائل الإعلام، شريطة أن يَتمَّ ذلك بوسائل صحيحة وموثقة، وبلغة سهلة فصيحة، وأن الاهتمام باللغة العربية لا يتم فقط من المدرسة والمعلم، وإنما يجب أن يكون من البيت والصحافة والإعلام والمجتمع بأكمله، فاللغة العربية ليست لغة الأدب والتواصل فقط، وإنما لغة الهوية والعلم.
* *
أي أننا الآن أمام فرصة لتصحيح لغة الصحافة قبل فوات الأوان، وذلك بوضع خطة أو تصور للنهوض بمستوى لغة الصحفي كتابة ونطقاً بحسب موقعه ودوره الإعلامي الذي يمارسه، فالصحف والمجلات ومثلما قالت زينب محمود عثمان في بحث لها من أن الوسائط المكتوبة تؤثر في انتشار اللغة العربية بشكل سليم، وتضمن الألفة في سماعها، مضيفة أنه يجب الاهتمام بلغة الصحافة، نظراً لكونها الشاهد الأول على حيوية اللغة العربية، وهذا يتطلب إدراج مادة قواعد اللغة العربية في المقرر الدراسي لكليات الإعلام، وتنظيم مهنة المصححين اللغويين للمقالات الصحفية، لتجنب الأخطاء اللغوية الشائعة في الصحافة، فالمسؤولية كما تقول تقتضي العمل تحت راية احتضان مآثر اللغة من جديد في سبيل الحفاظ على الإرث الفكري والحضاري للعرب.
* *
وبالنسبة لصحيفة الجزيرة ودورها في خدمة اللغة العربية فقد احتفت الجزيرة منذ تأسيسها باللغة العربية، ولم تكن بدعاً في ذلك، حيث المنشأ الأدبي لمعظم الصحف والمجلات السعودية بسبب دور الأدباء في تأسيسها؛ فكانت مجلة الجزيرة الصادرة قبل أكثر من خمسين عاماً (1379هـ) بمبادرة وإشراف الشيخ عبد الله بن خميس - رحمه الله - إيذاناً بالاتجاه الأدبي المرتكز على اللغة العربية الفصحى شعراً وقصة ومقالة ودراسة، واستمر المسار نفسه بعد اعتماد نظام المؤسسات الصحفية؛ فأوجدت الجزيرة - إثر إصدارها بشكل يومي - صفحة ثقافية تحت مسمى (أدب وثقافة) وتولى الإشراف عليها في بدء تحريرها الأستاذ الدكتور أحمد بن خالد البدلي - رحمه الله - وخلفه الأستاذ علوي الصافي ثم الأستاذ حمد القاضي وتعاون معهما مجموعة من مبدعي المملكة المعنيين بالشأن الأدبي الفصيح، ثم صارت صفحة يومية بنفس المسمى بإشراف القاص الأستاذ صالح الأشقر ويساعده جمع من الأدباء الشباب.
* *
ثم اتجهت «الجزيرة» إلى إصدار ملحقين من أربع صفحات لكل منهما يومي الأحد والخميس، إضافة إلى بقاء الصفحة اليومية لمتابعة الأنشطة الثقافية المتعددة في مختلف مناطق المملكة بإشراف مدير التحرير للشؤون الثقافية إبراهيم التركي، ورُئي لاحقاً دمجهُما في إصدار واحد تحت اسم (المجلة الثقافية)، صدر عددها الأول في 29-12-1423هـ الموافق 3 -3-2003م، وتكونت من أربع وعشرين صفحة، توزع مع الصحيفة الأم، وكانت تصدر كل يوم اثنين، ثم صارت الخميس، واستقرت أخيراً يوم السبت، وطرأ عليها تحول شكلي مهم؛ إِذْ صارت اثنتي عشرة صفحة بحجم الجريدة المعتاد مع إدخالها ضمن العدد، بحيث تكون متصلة به من جانب، ومنفصلة يمكن استلالها لمن أرد ذلك سعياً لتحقيق هدفين:
الأول: اجتذاب قراء الجزيرة غير المعنيين بالشأن الثقافي، وهو ما يحقق تأكيداً لدور الصحيفة في خدمة اللغة العربية والأدب الفصيح على أوسع نطاق.
الثاني: ضمان وصولها إلى جميع مشتركي الجزيرة ونقاط البيع بعدما تبيّن فقدان أعداد من المجلة المنفصلة خلال عملية التوزيع.
وفي الوقت نفسه أوجدت لها رابطاً مستقلاً في النسخة الإلكترونية يستوقف جميع متصفحي الجريدة عبر الإنترنت.
* *
وقد تم رفع مستوى التحرير الثقافي في الجزيرة إلى إدارة تحرير بجانب إدارات تحرير الشؤون السياسية والمحلية والرياضية والاقتصادية وغيرها، ووفرت لها كوادر تحريرية سعودية مؤهلة، كما استكتبت المجلة الثقافية أبرز الأسماء الثقافية الفاعلة على مستوى الوطن مع بعض الأقلام العربية المؤثرة، وروعي في منهج الاستقطاب والاستكتاب النأي عن المناطقية والمذهبية والتصنيفات المؤدلجة؛ فالتقت على صفحاتها التيارات المتعارضة في تلاؤم ثقافي راقٍ يمكن عده أنموذجاً لوحدة الوطن والأمة والغد المشترك وخدمة اللغة العربية، وقد احتفلت المجلة الثقافية في شهر ذي القعدة الماضي 1437هـ - أغسطس 2016م بعددها ذي الرقم «خمسمائة».
* *
ولم تقف ثقافة «الجزيرة» هنا، بل اختطت أسلوباً منتظماً في الوفاء للأحياء بإصدار ملفات عنهم، وتكريمهم وهم في أوج عطائهم، وقد تجاوز المكرمون مائة وعشرين رمزاً وشخصية ثقافية سعودية وعربية بارزة حتى الآن، كما أسهمت في بعض أمسيات الوفاء عنهم المقامة ضمن أنشطة الأندية الأدبية والجمعيات الثقافية ومعرض الكتاب.
* *
وضمن إنجازات ثقافة «الجزيرة» تمت طباعة سلسلة إصدارات عن «الجزيرة» الثقافية؛ حيث بلغت - حتى الآن - عشرة مجلدات ينتظمها عنوان: «من أعلام الثقافة السعودية»، كان أولها كتاب (الاستثناء) عن الدكتور غازي القصيبي، وقد صدر خلال حياته واكتمال صحته فسعد به وقال عنه: «إنني ظفرت بنوبلي فليوزعوا نوبل على من يشاؤون»، وجاء في أكثر من ستمائة صفحة وكتب فيه أكثر من سبعين مفكراً عربياً، وبعد وفاته أسهم رئيس تحرير الجزيرة ومدير تحرير الشؤون الثقافية في أعمال تأسيس كرسيه بجامعة اليمامة، وتلت هذا الكتاب الكبير تسعة إصدارات عن الشيخ عبد الله بن خميس والشيخ جميل الحجيلان والأمير خالد الفيصل من زاويته الفكرية، وستة إصدارات أخرى عن أكثر من أربعين رمزاً من أعلام الثقافة السعودية.
* *
كما تعاونت مع جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في إنشاء كرسي بحث صحيفة الجزيرة للدراسات اللغوية الحديثة، ومن خلال الكرسي صدرت مجموعة من الكتب العلمية ذات الصلة بخدمة اللغة العربية، حيث صدر حتى الآن كتاب بعنوان (تحولات العصر الرقمي وآثارها على اللغة العربية)، وآخر بعنوان (كشاف الأخطاء اللغوية في الصحافة السعودية أنموذجاً)، وثالث بعنوان (التعليم الإلكتروني في خدمة اللغة العربية).
كما صدر كتاب بعنوان (التعابير الاصطلاحية في ضوء النظريات اللسانية الحديثة - دراسات تطبيقية)، ثم كتاب بعنوان (الحاسوب والبحث اللغوي - المدوّنات اللغوية أنموذجاً)، وأخيراً كتاب بعنوان (دراسات حديثة في اللسانيات والأدب) ضم 12 بحثاً مترجماً من اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
* *
ومثل ذلك، فقد صدر عن كرسي صحيفة الجزيرة في جامعة الملك سعود سبعة كتب، اهتمت غالبيتها بالصحافة السعودية والعربية من حيث السمات التحريرية والمعلوماتية، وكانت اللغة العربية حاضرة بالتنبيه إلى الاهتمام والعناية بها في موضوعات ما ينشر في الصحف العربية السعودية.
* *
بقي أن أكرر الشكر والتقدير مرة أخرى لمعالي الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهي معقل اللغة العربية، على كريم دعوته ووكلاء الجامعة وعميد كلية اللغة العربية الدكتور محمد الفيصل والإخوة والأخوات على حضورهم، وأعتذر عن الإطالة، مؤكِّداً في نهاية هذه المشاركة أننا جميعاً مطالبون كلٌّ من موقعه على بذل الجهد في الذَّب عن اللغة العربية، والعمل على حمايتها من الضعف، والتصدي لكل ما يشكله التغريب من خطورة عليها.