د. حسن بن فهد الهويمل
[نظريَّة التلقِّي] في مناهج النقد الأدبي الحديث تُؤْثِرُ «القارئ» على كلٍ من [المبدع] و[النص]. وتفوِّض أمر الدلالة إليه.
وهو بهذا الإيثار مطالب بأن يكون مؤهلًا لتفكيك النص، واكتشاف ما خفي من دلالاتٍ، قد لا تكون من مقاصد الكاتب.
وأحداث المشهد السياسي بكل تناقضه، وفظاعته نَصٌ قابلٌ للعديد من القراءات. يتلقّاه المعنيون بمجسات، ومسابير متباينة بِعَدد تباين القراء، وتناقض خلفياتهم الثقافية، والانتمائية.
والحدثُ بوصفه نصًا مُلقْى، يستبطن المُحْدِثَ بوصفه فاعلًا له. وهذه الثنائية المتناقضة تُعَقِّدُ العملية الاستكناهية.
- وهل في مشاهدنا أحد لا يستفتح يومه بقراءة [إيران] الآيات، والملالي؟
أحداث [إيران] في عَهْدَيْ: [الشاه]، و[الملالي] تراوح بين العلمانية، والقومية، والطائفية.
يؤزُّها صراع الشرق الماركسي، والغرب الرأسمالي المتلاطمة أمواجها على عتباته.
كل تلك نصوص مُطَلْسَمة، تحير المتابعين في مراوغتها، التي تستبطن تناقضاتها.
مشهدنا السياسي تطفو على سوحه ظواهر، ووقوعات عالمية، حَيَّرت الراصدين، والمحللين، وظلت كما لو كانت في معزل عن التثوير:
- اغتيال «كنيدي».
- أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
- غزو العراق، وتسليمها لإيران.
- إيران بين التسهيلات، والعقوبات.
إنها أحداث مُطَلْسَمة، أشبه شيءٍ بالأساطير المستحيلة التصور. [إيران] في خضم الأحداث لم يكن مجتثًا في السياقات السياسية. إنه فاعل في عهد الشاه، ومستفز في عهد الملالي. والشاه يُعَدُّ الفاعل الأهم في صراع النفوذ بين الشرق، والغرب.
فبعدما وضعت الحرب العالمية أوزارها. بدأ النزاع بين [أمريكا] و[الاتحاد السوفييتي] حول السيطرة على إيران. وقد تولى الشيوعيون في [حزب تودة] ممارسة التسهيلات للمد الماركسي.
ولكن الغرب، و[أمريكا] بالذات سبقت إليه، واستأثرت بالغنيمة. وفي هذه الأثناء استفحل الصراع القومي، و[الآيديولوجي]، لمواجهة تنازع الشرق، والغرب على الغنيمة.
وعجز [الشاه] عن إدارة الأزمة جعله في وضع حرج، حمله على التضحية بسمعته، وبحرية شعبه في سبيل نجاة عرشه، بحيث اختار [الدكتاتورية]. وجاءت أسطورة [السافاك] بوصفه تنظيمًا بوليسيًا سريًا قويًا، نافذ الإرادة. مهمته قطع دابر أي جماعة ضغط تطال سلطة الإمبراطور.
هذا الكيان البوليسي دَنَّس سمعة الشاه، وتحول إلى ورقة رابحة في يد المعارضة، والموقف الدولي، وإن فك الاختناق حول رقبة الشاه.
و[أمريكا] الفاعل، والمراقب، وقعت في حرج، فعميلها القوي أطاحت به خطيئاته، ووضع مرض [السرطان] حدًا لنهايته.
وفي هذه اللجة تاه اللاعب الأمريكي، فخياراته تراوح بين الجيش الموالي لـ[الشاه]، والحكم المدني القومي.
والأخذ بأحد الخيارين مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنّ لكل خيار معوّقاته، ومحاذيره.
وفي أثناء مراوحة اللاعب الأمريكي بين الخيارات الصعبة، قطع [الخميني] قول كل خطيب.
لقد جاءت حرب [الكاسيت] ملهبة لمشاعر المواطنين، بوصف الدين القوة الإلهية لإنقاذ [إيران] من انقلاب عسكري عميل، أو ثورة شعبية، قومية ضعيفة، قد يضطرها ضعفها إلى إعطاء الدنية في المواطنة.
جاء [الخميني] مُطَمْئِنًا كل الطامعين بوعود تشبه وعود [هند]، ولسان حال اللاعبين الملعوب عليهم يردد:-
[ليت هندًا أنجزتنا ما تعد]
و[الخميني] في لجة الحماس أصبح هو الآخر عاجزًا عن الاستبداد، فخطاب الشارع قومي مداف بالطائفية.
و[الآيديولوجية] المتنفذة، يجسِّدها كتاب الخميني المثير [كشف الأسرار] بكل شطحه، الذي ألفه في المنافي، ولوث به [التشيُّع العربي] المُتَعايَشِ معه، قبل فتنة [ولاية الفقيه]، ومصميات [كشف الأسرار].
جاء [الخميني] بأحلامه الطائشة، التي غررت بالمغفلين، وأسالت لعابهم، ثم أسالت دماءهم. وذهب [الشاه] بطاووسيته، و[نرجسيته]، وشعوره بأنه شرطي المنطقة.
ولمّا يزل الشعب الإيراني يدفع الثمن مقتولًا خارج الحدود، أو مطاردًا داخلها. ولمّا تزل أحلام التوسع، وتصدير الثورة، والطائفية تتقدم خطوة، وترتد إلى الخلف خطوتين، وسط مُسْتَنقعٍ سَبِخٍ.
ولمّا يزل اللاعب الأكبر يستغل هذه الأحلام، ليحقق من خلالها ما يود تحقيقه، من إضعاف، وتفريق لكل الأطراف.
فإذا كانت اتفاقية [سايكس بيكو] قد شرذمت الأرض، فإنّ لعب اليوم تسعى، وتحفد لشرذمة الأفكار، والعقائد، والثقافات، متوسلة بأحلام شيطانية، استبطنها [الخميني]، وتلقتها من بعده [الآيات]، و[الملالي].
وفداحة التفريق الطائفي، وزرع الضغائن، والأحقاد أنكى من القتل الهمجي، والهدم العشوائي، وتشريد الملايين.