لا يَعْلَم إلا اللهُ وحدَهُ مَبلغَ السعادَةِ التي يَعِيشُها أَمْرُ اللهِ الآنَ وَهُوَ خارِجٌ مِنْ القاعَةِ وقَدْ انْتَهَى مَنْ أطْروحَةِ الدّكتوراه نِقاشًا. ولا يَعْلَمُ إلا اللهُ وَحْدَهُ مَبْلَغَ الجُهْدِ الّذي بَذَلَهُ في سَبيلِ طَلَبِ العِلْمِ عَناءً.
فالكتابَةُ عن تَأثِيرِ اللُّغَةِ الأجْنَبِيَّةِ فِي ثَقافَةِ مَنْ يَتَعَلَّمُها مِنَ الأتْراكِ أمرٌ مضنٍ تَكَلُّفُهُ. وَهو ما يُعْرفُ بـ (metalinguistic).أمّا أَمْرُ اللهِ فَهُو الآنَ جالِسٌ على أرِيكَةِ فِنَاءِ جَامِعَةِ مَرْمَرَة بإسطَنْبول لا يُقاوِمُ ذِكْرَياتِهِ الَّتِي أخَذَتْهُ إلى أيَّامِ طُفولَتِهِ. فَقَدْ كانَ لَصِيقًا بِوالِدِهِ، يَحْضُرُ جَلَسَاتِهِ وَدُروسَهُ. فَوالِدُهُ كعَالِمَ دِينٍ ضَليعٍ فِي فُنونِ الفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللَّغَةِ. كَانَ الفَتَى أَمْرُ اللهِ يَعِي كُلَّ ما يَقولُونَ، فَقَدْ آتاهُ اللهُ عَقْلًا مُدْرِكًا وَقَلْبًا حافِظًا. وَكانَ أَكْثرُ ما يَشُدُّهُ مِمَّا يَسْمَعُ الكَلام عَنِ التّارِيخِ وَالسِّيرِ، فَيَسْرَحُ بِذِهْنِهِ عِنْدَ الحَدِيثِ عَنْ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَيَتَخَيَّلُ نَفْسَهُ يَطوفُ أحْيانًا بِالبَيْتِ الحَرامِ، وَيُصَلِّي فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أحْيَانًا أُخْرَى. بَلْ كَانَ يَسْرَحُ أبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَرى نَفْسَهُ يَسْمَعُ خُطْبَةَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، أوْ يَرى نَفْسَهُ جُنْدِيّا في جَيْشِ سَعْدٍ يَوْمَ القادِسِيّةِ. أوْ تَاجِرًا يبيع الخز في أسْوَاقِ بَغْدَادَ. أوْ شَاعِرًا يَمْدَحُ الخُلفاءَ في دِمَشقَ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ جَريرٍ وَالفَرَزْدَقِ. أمَّا إذَا جَاءَ ذِكْرُ سَمَرْقَنْد وَطاشْقَنْدْ وَبُخَارَى وَأخَواتِهَا مِنْ مَنَاطِقِ وَادِيْ فَرَغانَةَ وَبِلادِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ فَتَراهُ يَتَنَهَّدُ تَنَهُّدًا عَمِيقًا وَيَذْكُرُ البَيْتَ المَشْهُورَ الَّذِي يَقُولُ:
لِلنَّاسِ فِي آخِرَتِهِمْ جَنَّةٌ
وَجَنَّةُ الدُّنْيَا سَمَرْقَنْدُ
لَكِنَّ بَعْضَ الكَلِمَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي مَجالِسِ وَالِدِهِ بِاللُّغِةِ العَرَبِيَّةِ كَانَتْ تُحْزِنُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ العَرَبيّة، فَكَانَ ذَلِكَ يُكَدِّرُ خَاطِرِهِ وَيُشْعِرَهُ بِالنَّقْصِ!لمْ يَسْتَسْلِمْ أَمْرُ اللهِ لِذَلِكَ، فَقَرَّرَ أنْ يَتَعَلَّمَ اللُّغَةَ العَرَبِيّةَ وَيَبْرَعَ فِيها حَتَّى يَصِيرَ أحْسَنَ مِنْ أَهْلِهَا! فَأكَبَّ عَلى دِرَاسَتِها فِي بَلِدِهِ، فَنَالَ مِنْها مَاشَاءَ اللهُ أنْ يَنالَ، لَكِنَّهُ أدْرَكَ قِصَرَ خَطْوِهِ، وَقِلَّةَ زادِهِ فِيها، فَقَرَّرِ الرحِيل إلى إحدى البِلادِ العَرَبِيَّةِ. لِيُحَقِّقَ آمالَهُ وَيَجْعَلَ بَعْضَ خَيالِهِ واقِعًا.
وَصَلَ الفَتى أَمْرُ اللهِ إلى مَعْهِدِ اللُّغَةِ العَرَبِيّةِ بِجامِعَةِ المَلِكِ سُعود، لَكِنَّ أولَ يومٍ لهُ في الَمعْهَدِ كانَ يَوْمًا عاصِفًا لَنْ يَنْساهُ مابَقِيَ عَلى قَيْدِ الحَياةِ. فَقَدْ رَأى مَسْؤولَ الاسْتِقْبالِ يَنْظُرُ بِتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ إلى الطَّالِبِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ بَدى وَكَأنَّهُ نَيْجِيرِيّ، مِمّا أغْضَبَ النَّيجِيرِيَّ كَثِيرًا، لَكِنَّ مَسْؤولَ الاسْتِقْبَالِ عَبْدُ الكَرِيمِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَظَلَّ مُؤدِّيا عَمَلَهُ فِي هُدُوءٍ. أمَّا أَمْرُ اللهِ فَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ أنْ يَقْعُدَ لِاخْتِبَارِ تَحْديدِ الُمسْتَوى؛ وَالَّذِي كَانَتْ نَتِيجَتُهُ مُـخَيِّبَةً لَهُ وَصادِمَةً؛ فَقَدْ وَضَعَهُ الَمعْهَدُ في المُسْتَوى التَمْهِيدِيّ، رُغْمَ إجادَتِهِ لِأبوابٍ فِي النَّحْوِ لَا يُجِيدُها كَثِيرٌ مِنْ أبْنَاءِ العَرَبِ النُّجَبَاءِ. أثّرَ هَذا المَوْقِفُ فِيهِ كَثِيرًا بَلْ أغْضَبَهُ غَضَبًا جَعَلَهُ يُقَرِّرُ مَعَهُ العَوْدَةَ إلى بِلادِهِ في أقرَبِ فُرْصَةٍ، ولَكِنَّ بَعْدَ أنْ يؤدّيَ الحجَّ وَالعُمرَةَ! فقدْ فَشِلَتْ رِحلتُهُ في يَومِها الأوَّلِ .
دَخَلَ أَمْرُ اللهِ الفَصْلَ التَّمْهيديَّ مُرْغما، وَجَلَسَ على الكُرسِي مُـجْبرًا، وَأنْصَتَ لِلْمُعَلِّمِ كَارِها. وَازْدَاد حَنَقُهُ وَفَارَ دَمُهُ بَعْدَ أنْ سَمِعَ طالِبًا بَدا وَكَأنّهُ مُسْلِمٌ أورُبّي جاءَ مِنْ ألبانيا أو روسِيا يَقْرَأ القُرْآنَ قِراءةً أضْعَفَ مِنَ الضَّعيفَةِ، وَأسْوَأ مِنَ السَّيئَةِ. فَقَالَ في نَفْسِهِ: إنْ كُنتُ نَـجوتُ مِن نظْرةِ عَبدِ الكريمِ، فَلَمْ أنْـجُ مِنْ هَذا التَّصْنِفِ اللَّئِيمِ. وَلمَا جاءَ دَورُ أَمْرِ اللهِ في المُشَارَكَةِ فِي الدَّرْسِ أحْجَمَ ولَمْ يُـجِبْ، تَنفيسًا لِغَضِبهِ، وانتِقاما مِنْ تَصْنيفِهِ. فابْتَسمَ لَهُ الُمعَلِّمُ وَتَركَهُ.
لِمْ يكَدْ وقتُ الدرسِ يَنْتَهي حَتى ذَهَبَ يُصَلّي الظُهَرَ وَهُوَ يَتلفّتُ ذاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمالِ، لعلَّه يَـجدُ مَنْ يعرفُهُ أو يُكلِّمُه، فَلمْ يَنَلْ بُـغيَتَهُ. فَلمّا فَرَغَ الإمامُ من صَلاِتِه وأقْبَلَ عَلى الُمصَلِّينَ بِوجْهِهِ، جَزمَ أَمْرُ اللهِ عِنْدَما نَظَرَ إلَيْهِ أنَّهُ تُركيُّ الأصْلِ وَالفَصْلِ، فَكادَ يَطيرُ لِذلِكَ جَنانُهُ فَرحًا. وَبَعْدَ الصَّلاةِ ذَهبَ إلَيْهِ وَعَرَّفَهُ بِنَفْسهِ وَشَكَى إلَيْهِ حَالَهُ. فَقالَ لَهُ صاحَبُهُ الجَديدُ آدمُ، وهُوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسامَةً وَاسِعَةً: لَا تَـخَفْ! فَما أغْضَبَكَ أغْضَبَنِي في يَوْمِيَ الأوَّلِ، فَبِدَايَتي بِالأمْسِ مِثْلُ بِدايَتِكَ اليَوْمَ، فَلَمَّا انْطَلَقْتُ في الُمحَادَثَةِ نَقَلونِي إلَى المُسْتَوَى الثَّانِي وَللهِ الحَمْدُ. أمّا نَظَرَاتُ النّاظِرِ فَلَا أعْرِفُ عَنْها شَيْئا، وَأمّا القَارِئُ المُسِيء فَلا أدْرَي مَا خَبَـرُه. ثُمَّ قال آدَم: زِدْني سُؤالًا أزِدْكَ جَوابًا. فَقَالَ لَهُ أمر الله: يكفي هَذا اليَومَ.
وَقَبَلَ أنْ تَغيبَ شَمْسُ ذَلِكَ اليَوْمِ ذَهَبَ أَمْرُ اللهِ إلَى سَكَنِ المَعْهَدِ وَاسْتَلَمَ غُرْفَتَهُ، لِتَسْتَمِرَّ مُفاجَآتُه، وَلَكِن بِلَوْنٍ آخَرُ ، فَقَدْ شَاءَ اللهُ وَإنْ لَمْ يَشَأ أَمْرُ اللهِ أنْ يَكونَ ذَلِكَ الفَتَى الأورُبِّي رَفِيقَ سَكَنِهِ، عِنْدَها عَرَفَ خَبَرَهُ، وَالحَرْفَ الَّذي قَرَأ بِهِ القُرْآنَ، فَهْوَ رَجُلٌ غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَقَرِيبٌ لِلسَفِيرِ الإيْطَالِي فِي الرِّياضِ. جَاءَ لِيَدْرُسَ اللُّغَةَ العربِيّةَ قَبل أنْ يَلْتَحِقَ بِجامِعَة رُوما لِيَدْرسَ الحَضارَةَ الشَرْقِيّةَ فِيهَا.
وَأرادَ اللهُ لِأَمْرِ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أيَّامٍ وَهُوَ يَتَنَقَّلُ في رَدَهاتِ المَعْهَدِ أن يَلْتَقِيَ بِالطَّالِبِ النَيْجِيريّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ أوَّلَ يَومٍ في الدِّراسَةِ، فَلَمْ يُمْهِلْهُ أَمْرُ اللهِ حَتَّى سَألَهُ عَنْ نَظَرَاتِ عَبْدِ الكَرِيمِ في ذَلِكَ اليَوْمِ المَشْهودِ ، فَضَحِكَ النَّيْجِريُّ ساني أبو بَكْرٍ كَثِيرًا وَقَالَ: لَم أتْرُكِ الأمْرَ يَمُرُّ عَلى عَواهِنِهِ، فَقَدْ عُدْتُ إليْهِ وَسَألْتُهُ عَنْ ذَلِكَ. هُنا بَرَقَتْ أسَارِيرُ وَجْهِ طونجاي، واسْتَجْمَعَ نَفْسَهُ، وَأقبَلَ عَلى صَاحِبِهِ مُصْغِيًا إلَى كَلامِهِ. فَأكْمَلَ ساني وَقَالَ: قُلْتُ لِلرَّجُلِ مَا بَالُ عَينِكَ كَانَتْ شاِخصَةً فِيَّ يا رَجُلُ؟ فَقَالَ لِي: إنِّما حَدَّقْتُ فيكَ النَّظّرَ لِأني تَذَكَّرْتُ طالِبًا نَيْجِيرِيًّا آخَرًا اِسْمُهُ أحْمَدُو مُعَاذُو، دَرَسَ عِنْدَنا قَبْلَ سَبْعِ سَنَواتٍ، وَلَو كانَ الحَلِفُ علَى الغَيْبِ جائِزًا لَحَلَفْتُ أنَّكَ أخُوهُ، فَضَحِكْتُ مِنْ قُوَّةِ المُفاجأةِ واحْتَضَنْتُ عَبْدَ الكَرِيمِ وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ صَدَقْتَ وَصُدِّقْتَ، فاحْلِفْ غَيرَ حانِثٍ وَلا مُكَذَّبٍ. فَقالَ أمر الله: نَعَمْ يَحْلِفُ غَيْرَ حانِثٍ وَلا مُكَذَّبٍ .... هَذا ما يُعْرَفُ عِنْدَ العَرَبِ بِالفَراسَة، كُنْتُ أسْمَعُ عَنْهَا وَها أنا أعِيشُها.
أفَاقَ أَمْرُ اللهِ مِنْ خَيَالِهِ، وَوَجَدَ أنَّهُ قَدْ نَثَرَ الشَّايَ عَلى الصَّفْحَةِ الَّتِي رَقَمُها 51 مِنْ رِسَالَتِهِ، وَهِيَ بِدَايَةُ البَابِ الثَّانِي الَّذِي عُنْوَانُه: International communication
د. محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ - رئيس مجلس إدارة العربية للجميع