عبدالحفيظ الشمري
في هذا الزمن المتأزم إقليمياً وعالمياً؛ لا بد أن تكون هناك عديد من المواقف المتشنجة والتجاذبات العنيفة التي تتمدد وتتسع حسب مساحات سعائر الحروب والصراعات، لتنشأ معها محاولات إنسانية جادة؛ تسعى جاهدة إلى لملمة هذه الجراح، والتخفيف من نتائجها الأليمة، ومضاعفاتها الخطيرة على المجتمع الذي غالباً ما يعيش مرغماً في بؤر هذه الأحداث المأساوية.
فيلفت الانتباه ما نسمعه كثيراً عبر وسائل الإعلام وقنوات التواصل المختلفة عن أمر «الهدنة الإنسانية» التي تعد علامة أمل فارقة في مثل هذه الصراعات والحروب. فبتنا نسمع عنها كثيراً، لأنها ضمن أولويات الأحاديث والتحاليل والأخبار اليومية، لتصبح هي الطموح المنشود، والمطلب الملح، فـ»الهدنة» منطوق متوافر ومتكرر إلا أنه - مع الأسف - لا يتحقق شيء منه، لاعتبارات كثيرة بعضها مقبول، والكثير منه مرفوض. فالحرب لا شك أنها حالة مرعبة لا يريدها الجميع.
وحينما نتأمل هذه الكلمة «الهدنة» في قاموس الحرب يتعين أن نتمثلها في قاموس اللغة، حيث تُعرف بأنها «ترك الحرب والركون إلى التصالح»، والأصل فيها الدعة والسكون، وجمعها هُدَن أو هُدُنَات، إلا أن المعنى الفعلي أو القريب هو ما لدى العرب في حروبهم مع بعضهم، أو مع غيرهم منذ قرون هو أن يعقب الحرب وبعد توقفها تماماً هدنة، لكن ما يلاحظ اليوم هو أنه وفي عز القصف والتراشق والقتل والدمار يسعى المعنيون بأمرها إلى طلب هذه الهدنة، وهذا - مع الأسف - مجرد وصف بعيد، وقد يكون من قبيل العبث اللفظي الذي لا فائدة منه.
فالهدنة في هذا الوقت يراد لها أن تُستقطع من زمن النار والدمار، فلا يمكن لها أن تكون مفيدة، وناجعة، لأنها غالباً ما تنتهك، فعلى مدار الساعة تترى أخبارها، لتحلل أمور الهدنة التي قد يشار إليها بعدة نعوت وأوصاف على نحو: هدنة قصيرة، وهدنة هشة، أو هدنة من طرف واحد، وهدنة إنسانية، وجلها شبه أوهام أو تمنيات تأتي على هيئة تنظير، أو حبر على ورق، فالهدنة الحقيقة أن يقف حمام الدم، والقتل والدمار الذي يطال في الغالب الأعم الأبرياء العزل، وصغار السن والنساء!!
من يتحكم بأمر الهدنة وسريانها فهي في الغالب أطراف تحرك الصراع من بعيد، حتى إن الحرب قد تستعر في جهة أو مدينة ما؛ فيما هناك ترتيبات هدنة مفتعلة في جهة أخرى، فسرعان ما تتحرك قوى الصراع الخفية في تأجيجها وفق الأهواء، والترتيبات المراد لها.
وينظر إلى هذه «الهدنة» ويقصد بها من حيث الظاهر تفعيل الحل السلمي أو إدخال الغذاء والدواء، وإخلاء الجرحى، وهذا في ظاهرها الأعم، أما مرادها أو مغزاها فإنه قد يكون من أجل ترتيب الأولويات، وتوريد السلاح وإدخاله وإصلاح المدافع، وتجهيزها بالذخائر الموت، وعبوات البارود، وكل هذا يقع في وقت الهدنة المزعوم.