تمر المملكة العربية السعودية بمرحلة تحوّل ذات أبعاد إستراتيجية لا تقف عند حدود الواقع الراهن وحيثياته، بل في نظرة ثاقبة، تستشرف الآفاق، وتستقرئ المستقبل البعيد، ليس القصد منها البقاء فحسب! بل قيادة البلاد وجعلها في مصاف الدول المنتجة، ومقارعة أعظم الدول..
وتقود حكومتنا الشابة اليوم حراكاً يستنهض الفكر، ويقتحم أسوار التطوّر في كل اتجاه وكل صوب.. ويضطلع هذا الحراك التنموي بصنع جيل يُؤسس لأجيال تنعم بفرص استثمار متنوعة ومتعددة، يحدوها في ذلك روح المبادرة الممزوجة بالهمة والعزيمة، برغم المرور بمتغير اقتصادي كان له أثره البالغ على دول العالم أجمع..
ولعلي أكتفي باستعراض جانب من هذا النهج المتوقد، والذي يعكس عمقاً إجرائياً حكيماً، وبنظرة إصلاحية ثاقبة تستهدف إعادة الهندسة لمؤسسات الإعداد في التعليم العام والجامعي والمهني والتقني، فالمتأمل في سلسلة الإصلاحات والتعديلات الإدارية يدرك مرامي تلك القرارات الحكيمة والمُحكمة التي تهدف إلى رصد توجه الجيل وهو في مرحلة مبكرة من الإعداد، في حين يُنَاط بجهات أخرى دراسة سوق العمل (وإعادة الهيكلة إذا لزم الأمر) والتعرف على مناطق الاحتياج وفرص الاستثمار، ومن ثم تركيز الإعداد نحو هذه المنظومة الوظيفية، وهكذا يكون توجيه الجيل لتلك المنابع الاستثمارية والفرص البنائية..
وهنا أشير إلى دور منتظر من هيئة تقويم التعليم «والتدريب» مضطلعة بالجدارات والقدرات والكفايات والمعايير في مؤسسات الإعداد (التعليم العام والجامعي والمهني التقني) بهدف التشخيص الدقيق للموقف (تشخيص المنشأة، والمنُفِّذ، والمستفيد، والواقع، والاحتياج)، ومن ثم المشاركة في تحديد مسارات المعالجة وخطط الإصلاح، بما يضمن الاستفادة القصوى من فرص الاستثمار، والهيمنة الوطنية على فجوات الاحتياج في أسواق العمل السعودية..
ومأمول من هذه المعالجة الواعية، والشاملة لمؤسسات الإعداد ومواطن التأهيل، ومؤسسات التوظيف في القطاعين العام والخاص، أن تنهي تلك الممارسة السائدة والتي كانت تدفع بالخريجين نحو اتجاه واحد (التعليم الجامعي فقط)، مما تسبب في حالات التكدس سواءً في مكاتب القبول في الجامعات، ومن ثم التكدس أمام مكاتب التوظيف.
والخلاصة في ذلك أن هذه المعالجة تهدف إلى التعرف على مؤسسات الإعداد (وإصلاحها)، والتعرف على أسواق العمل (وتهيئتها)، والتعرف على واقع الخريج في وقت مبكر، والكشف عن ميوله واتجاهاته وتحديد قوة النجاح التي لديه، ومن ثم توجيهه إلى الأنسب من خيارات التخصص، وبالتالي توجيه عملية التأهيل نحو فرص الاستثمار والاحتياج الوظيفي، وتحقيق النجاح في التأهيل والتوظيف في آن واحد وبشكل متكامل.
إن هذا الطرح الجميل لم يعد تنظيرياً في ظل وجود هذه الحكومة المتطلعة، والمتأمل في سير الأحداث، يرى أن جانباً من هذا الطرح قد دخل حيّز التنفيذ، فما يجري من حراك داخل أروقة وزارتي التعليم والعمل وما يتبعهما من هيئات وشركات ومؤسسات وصناديق.. وغيرها، تم وضعه اليوم أمام مؤشرات إنجاز، ومراقبة أداء.. وتحت مجهر محاسبة من قِبل أعلى المستويات الإدارية في الدولة، بهدف الدعم وتذليل الصعاب، سعياً لضمان النجاح وتحقيق التطلع المنشود..
وأخيراً.. إن مسيرة الإصلاح تتطلب تفهماً وإدراكاً وتعاوناً من الجميع (أفراداً ومؤسسات) وتقبلاً لكل ما يحدث، مع منح الفرصة للوقت، فالتغيير والتحول ليس سطحياً، وإنما إستراتيجياً، وقد يحتاج منا المزيد من البذل والعطاء..
مدير عام إدارة التطوير المهني بشركة تطوير للخدمات التعليمية - الرياض