د.عبدالله مناع
المصادفة وحدها.. هي التي حددت السادس من شهر ديسمبر - الحالي - موعداً لذهابي إلى (القاهرة).. استجابة لدعوة كريمة من صديق عزيز لقضاء ثلاثة أيام.. يشهد ختام لياليها حفل غنائي يسترجع أيام وليالي: (الزمن الجميل).. والغناء الجميل، الذي أوجدته وعاشته (القاهرة) في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات.. وعاشته معها (الأمة العربية) إلى نهاية السبعينيات، ليأتي بعدها قحط فني.. تصدعت فيه الرؤوس، وترملت فيه القلوب، وتيثمت فيه الأرواح.. بـ(موسيقى) وأغانٍ لا أب لها ولا (أم)، لا ماضٍ لها ولا تاريخ، بل مقطوعة الصلة بذلك الماضي الغنائي العربي التليد.. الذي بلغ ذروة جماله وكماله وعظمته مع (أطلال) السنباطي وأم كلثوم.. و(أنت عمري) عبدالوهاب وأحمد شفيق كامل و(قارئة فنجان) نزار وعبدالحليم والموجي.. و(عش أنت) الأخطل الصغير وفريد.. و(نهر) محمود حسن إسماعيل (الخالد) ودعاؤه.. و(أروح لمين) عبدالمنعم السباعي و(على باب مصر) كامل الشناوي، ولولا البعد الجغرافي - على محدوديته - لما نجت (فيروز).. من عاصفة الدمار.. التي اجتاحت سماء الأغنية العربية، ولما نجا (الرحبانية).. وفنهم المتفرد والجميل، الذي أصبح.. هو المعوض و(البديل).. عن (الدمار) الذي لحق بالموسيقى والغناء، وهبط بهما إلى أسفل سافلين بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي!!
* * *
في صبيحة اليوم التالي - السابع من ديسمبر - كنت أطالع مع فنجان قهوتي.. صحيفة (الأخبار) القاهرية، التي فاجأتني على صفحتها الأولى.. بـ(نبأ) احتفالها في ذات العدد وذات اليوم.. بـ(ذكرى) مرور ثمانية وتسعين عاماً على ميلاد (أمير مملكة العشاق) - كما أسمته الصحيفة - أو نيزك الشعر العربي وكوكبه.. كما أسميه: الشاعر العربي المصري كامل الشناوي.. الذي ترأس تحريرها في خمسينيات القرن الماضي قبل ترؤسه لتحرير صحيفة (الجمهورية)، والذي كان يشرف فيه.. على ملحقها الأدبي الأسبوعي، الذي كنت أقتات على ما ينشر فيه من إبداعات (الورداني) و(إدريس) و(عبدالحليم عبدالله) القصصية.. وإبداعات (بيرم التونسي) وأوجاع منافيه الشعرية.. أيام دراستي بـ(جامعة الإسكندرية)، لأضع فنجان قهوتي جانباً.. وقد غمرني شعور طاغٍ من السعادة لهذه المصادفة الرائعة.. التي جاءت بي يوم (أمس) لأشهد (اليوم).. احتفالية وفاء صحيفة (الأخبار) برئيس تحريرها الذي لا ينسى (كامل الشناوي)، والذي كان بحق أكبر من صحفي وأعظم من شاعر وأهم من أديب، فقد كان نيزكاً وشهاباً فـ(كوكباً) في حياة مصر الثقافية والأدبية طوال أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي بـ(شعره) وكلماته.. بـ(فلسفته) وحيرته وأحزانه.. بـ(ظرفه) وقفشاته و(مقالبه)، تدور حوله النجوم والأقمار والكواكب والمواهب لتستقر حول مائدته الفكرية في شرفة فندق سمير أميس - القديم - كل مساء لتستمع إليه.. وتطرب، وتتعلم وتستلهم، ثم تنصرف عنه.. وقد امتلأت قلوبها وعقولها: فكراً وأدباً وفناً.. فذلك هو كامل الشناوي، صاحب المأدبة الغنية بـ(أفضل ما يشتهيه المثقفون).. والمبذولة والمتاحة لكل الناس: (فقد عاش حياته فناً رائعاً فريداً.. وفق أسلوبه ومزاجه الخاص دون أن يعنيه في قليل أو كثير أن يبدع خلالها فناً يصلح للنشر أو الانتشار والخلود. أصر أن تكون حياته ذلك الكتاب العظيم، الذي استنفد سنوات عمره، وعصارة فكره، وأشواق قلبه، ورحيق صمته).. كما قالت صحيفة (الأخبار) في صدر تذكره، ولذلك.. عندما وافته المنية مبكراً، وهو في الثامنة والخمسين من عمره.. لم يجد تلاميذه وعشاقه ومحبوه من آثاره غير ديوانه الأشهر والأجمل: (لا تكذبي) بقصائده التسع والعشرين التي شدا بمعظمها أساطين الفن والغناء في القرن العشرين: عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد وعبدالحليم.. بل و(نجاة الصغيرة) صاحبة القصيدة التي حمل الديوان عنوانها (لا تكذبي)،مجموعة مقالاته التي جُمعت في كتاب بعنوان (بين الموت والحياة)، وكتابه الفلسفي الرائع (ساعات).. الذي جسَّد فلسفته وحيرته وأحزانه وعشقه وسخرياته وحبه للحياة ونقمته عليها، كقوله عندما كتب عن خروج الأستاذ الدكتور أنور المفتي.. من مكتبه لوداعه، وهو يوصيه الالتزام بأخذ الأدوية التي كتبها له، و(الحمية) الغذائية التي أوصاه بها: (أحسست وهو يودعني إلى باب غرفته أنه لا يودع صديقاً.. ولكن يشيع جنازة)..!!
* * *
كانت الصفحتان اللتان خصصتهما صحيفة (الأخبار) للاحتفاء بذكرى ميلاد (الشناوي) الثامن والتسعين.. كافيتين لتقديم ما لم ينشر عنه، وعن حياته من قبل.. كـ(الحوار) الذي أجراه الشناوي مع (عبدالناصر) بعد تنصيبه رئيساً للجمهورية عام 1956م، أو كتلك (القبلة) التي جمعت بين أمير صحافة الأربعينيات المصرية (محمد التابعي) والشناوي، والتي كشفت عن صلة القربى التي تجمعهما عن طريق زوج خالة الأستاذ التابعي، أو تلك الصورة (الفوتوغرافية) النادرة التي جمعت بين نجوم الفن و(الصحافة) وهي تضم في لقطة واحدة كلاً من الشناوي وعلي ومصطفى أمين والأستاذ عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم.. في إحدى الحفلات التي كان يقيمها في منزله (مصطفى أمين).. مشفوعة بحديث مطول عن اتهامه للفنانة (نجاة الصغيرة) بقتل كامل الشناوي.. عندما لقيها بعد أن نشر مقالاً: تساءل فيه عن من قتل (كامل الشناوي)..؟ ليقول لها: إن أصدقاء الأستاذ كامل الشناوي يتهمونها بـ(قتله)..؟
فقالت: لا.. إنه هو الذي انتحر..؟
فسألها: إن كانت تقصد أنه انتحر حباً..؟
فقالت: لا.. بل انتحر غيرة..!!
ثم أقامت عليه (دعوة).. كسبها الأستاذ مصطفى أمين ببراعة محاميه، الذي تنصل من الاتهام المباشر لـ(الفنانة)، ولم تحل القضية في النهاية بينهما.. إلا بتدخل شقيق الأستاذ كامل الشناوي شاعر العامية المبدع (مأمون الشناوي)، وصديقه الحميم.. موسيقار الأجيال: الأستاذ محمد عبدالوهاب، أو كتلك (الخواطر).. التي استدعتها الصحيفة وهي تسميها بـ(خواطر شناوية)، والتي لم تنشر في كتابه الفلسفي (ساعات).. كقوله في إحداها: (الناس جميعاً يتمنون أن تطول أعمارهم، هذه هي «القاعدة»، وقد يشذ عنها بعض المفكرين والفلاسفة وهواة الانتحار، ولست والحمد لله.. واحداً من هؤلاء، ومع ذلك فإني كثيراً ما أتساءل: هل طول العمر.. نعمة أم عقوبة؟ الموت.. ليس مشكلة.. الحياة هي المشكلة)!!، وقوله في أخرى: (ما أشبه طريق حياتي.. ببيتي، نصفه مفروش والنصف الآخر خالٍ من الأثاث، أتلفت ورائي فأجد الأيام تغطي طريقي، وأنظر أمامي فأرى الطريق عارياً إلا من يوم أراه ويوم لا أكاد أراه)!! وقوله في ثالثة: (أنا ابن هذه الدنيا التي خلقها الله، ولم أغمض عنها عيني لأني أدركت عظمة هذا العمل الفني الإلهي.. فإذا اختارني لآخرته، فسأكون جديراً بهذه الآخرة.. بعد أن دخلت تجربة الدنيا ويا لها من تجربة)!!
معروف.. أن الأستاذ كامل الشناوي عندما احتفل بعيد ميلاده السابع والخمسين - قبل عام من وفاته - استقبل يوم عيد ميلاده بقصيدته الشهيرة والحزينة (يوم مولدي)، التي كانت.. وكأنها نبوءة بقرب رحيله، وهي التي يقول في مطلعها:
(عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي؟
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي
كنت يوماً بلا غد)!!
والتي يقول في متنها: (أنا عمر بلا شباب، وحياة بلا ربيع. أشتري الحب بالعذاب، أشتريه.. فمن يبيع)؟!
.. مع انتصاف النهار كنت.. قد انتهيت من قراءة (الصفحتين) الممتلئتين والممتعتين.. لاتجه إلى القبلة لقراءة الفاتحة ترحماً على روح الأستاذ (كامل الشناوي) الأديب والفنان والفيلسوف، وشاعر نشيد الحرية (كنت في صمتك مرغم. كنت في صبرك مكره. فتكلم وتألم وتعلم: كيف تكره)، وشاعر (الوطنية) التي يجسدها قوله: (وصاح من الشعب صوت طليق. قوي. أبي عريق عنيد يقول: أنا الشعب والمعجزة أنا الشعب لا شيء قد أعجزه وكل الذي قاله أنجزه)!!
.. لأسارع بفتح باب غرفتي لـ(عامل نظافة) الغرف.. الذي استمهلته لبعض الوقت.. فطال عليه الانتظار!!
* * *
ربما كان.. من بين أفضل (تقاليد) الإعلام المصري بكل وسائله ووسائطه وقنواته.. هو هذا الاحتفاء بـ(رموز) الفكر والأدب والعلم.. والشعر والموسيقى والغناء.. والقراءات والنحت والتشكيل عاماً بعد عام، فلا يسقط أحد من ذاكرة الأجيال المتعاقبة ووعيها، لأن هؤلاء هم قلب مصر.. وروحها وحياتها..!!