ياسر حجازي
1
يقضي الاصطفاف الذاتي وغير الموضوعي على مصداقية أيّ مشروع تنويري يحمل في خطابه المسألة العلميّة والتعدّدية ويحوّله إلى مشروع أيديولوجي، ظاهرُهٌ العلميّةُ والتعدّديّةُ بينما أجندته سياسيّة إقصائيّة. فالعلم لا يعترف بالاصطفاف إلا للنتائج العلميّة ومخرجات التجارب. (هذا لا يعني خلو الساحات العلميّة من صراعات واصطفافات ذاتيّة، ولكنّها تبقى مرفوضة علانيّاً ولا تجد مؤازرة). ومقصدنا أنْ نقفَ عند اصطفافات غير موضوعيّة يمارسها دعاة التنوير دون استنكار فيما بينهم للتعارض الصارخ بين خطاب التنوير العلمي والتعدّدي وجرح شروطه.
إنّ حملان التنوير خطاباً اصطفافياً يزن الأمور والمواقف بموازين ذاتيّة اصطفافيّة: (هذا معنا فلنبرّر سلبياته، وذاك ضدّنا فلنعمي أنفسنا عن إيجابياته) يتّجه بالخطاب إلى أصوليّة في التفكير والتعاطي والتقويم والنقد أيضاً، وهو على هذه الأسس يكون أقرب إلى خطاب أصوليّ أو حزبي لا يمتّ إلى خطاب التنوير المبني على العلميّة والتعدّديّة ونقد الذات والعمل على سؤال الحريّة والسعادة والقدرة والمساواة والعدالة، ومفردات تنويريّة أخرى ليس هذا مقامها.
2
استحضرت مؤخّراً في مواقع التواصل الاجتماعي محاضرة للأستاذ إبراهيم البليهي في جامعة اليمامة، وتحديداً، الحادثة التي أنهت المحاضرة بانسحاب (الدكتور بن حراث بوتو) وتبعه مجموعة من الشباب، بعد مداخلته برأيٍ عن الدور الحضاري التطبيقي للعرب الأوائل وصولاً للأندلس، وهو الدور الذي ألغاه (البليهي) دون تقديم حجّة، بل أعقب على المداخلة مستهزئاً، ممّا فتح الباب للمنسحبين (إن كان ذلك ردّة فعل على استهزائه أو مؤامرة كما يراها المحاضر)؛ وكان قد دار بيني والأساتذّة في صفحات الفيسبوك: (علي بافقيه وعبدالكريم العودة) محاورات حول ما دار، وقدّمت لهما رؤية لما حدث من باب علميّ وتعدّدي لا يعترف بالاصطفاف غير الموضوعي، ورأيت أن أعيد صياغتها مقالياً لأهميتها؛ فنحن هنا أمام قضيتين: (فكريّة وسلوكيّة)، وبين فريقين: (التنوير والتقليد)؛ فهل نمضي لتحكيم العقل الذي ندّعيه في التنوير أو نذهب إلى الاصطفاف الذي ننتقد به خصومنا؟!
لم يقدم (البليهي) حجّة أمام حجّة، بل ذهب إلى كلام استرسالي وشخصاني بقوله: (هذا كلام تقوله العجائز للأطفال) فهل من العلمية والفلسفة والمجادلة والمحاورة اعتبار هذا الرد (ردّاً) ذا قيمة مرتبطة بالمسألة محل الجدل، أمْ ( رداً استفزازياً وشخصانياً)؟
هل نقبل هذه الردود علمياً؟ فأنت إنْ قدَمت حججاً في مسألة علمية أو فكرية فإنّ خصمك تحت هذه الردود يمكن أن يستخدمها للاستهزاء بأطروحتك: (هذا كلام عجايز..،) أو كما يقول التطرّف: (هذا كلام كفر) لكنه في نهاية الأمر لم يعارض حجّة بحجّة ومصدراً بآخر.
3
خطاب التنوير لم يعد سرّاً، ولا حكراً على نخبة، كما حاله زمن: (طه حسين والقصيمي وعلي عبدالرازق وغيرهم..)، مشاعية العلم جعلت من حجج الرازق وطه حسين في متناول الجميع وأطاحت بمفهوم النخبة القائم على الندرة، المشكلة هنا، في حملة خطاب التنوير!! وهل هم على التزام بمفاهيم التنوير والتعدّد وقبول الآخر والنقد العلمي أم في حالة تيه أو تضليل أو حالة بقاء الحال على ما هو عليه، فتأمّل من المستفيد من تحويل البوصلة عن هدفها واتجاهاتها!!!
الإشكالية ليست في الفكر المحافظ فنحن نعرفه جيداً، وأساليبه واضحة وباتت مكشوفة للجميع، الإشكالية في دخلاء التنوير والعلمانية الذين يدخلون الإقصاء والعنف ونبذ الآخر في خطاب التنوير. ثمّ إذا كنّا نأخذ بالإقصاء فلماذا لدينا خطاب تنوير؟ وما نفع هذا الخطاب إذا لم يكن موجّها للجميع ونعتقد أنّ ثمة أملا للتعايش من ورائه في محو الإقصاء والتقسيم؟
هؤلاء الذين نزعم (جهلهم) هم شركاؤنا في الوطن، وإن حمل مشروعهم إقصاء فليس غريبا عن سياقات مشروعهم وخطابهم، لكن الخطورة أن يحمل مشروعنا التعددي والتعايشي خطاباً إقصائياً ومتطرفاً يلغي علّة وجوده وتميّيزه.
4
ما يعنينا هنا «عدم الاصطفاف» والردّ بالحجّة، فهذان من شروط التنوير الأساس، ولا يمكن أن أتخلى عنها في تصوّري للتنوير، فقد كان حريّاً (بالأستاذ البليهي) أن يأتي بالحجة على خلو التاريخ الإنساني من الدور العربي في سياق التراكم الحضاري التاريخي، وهو يعجز عن إثبات ذلك، ولا يمكن في سياقات التاريخ أن يزيح (على مزاجه) دون إثباتات، ذلك الدور، إلاّ إذا أردنا أن نضع تعريفات متقدّمة للحضارة مرتبطة بمفاهيمها المعاصرة، ولا يمكن إسقاطها على حضارات الأمم السابقة وإلاّ محونا دورها التراكمي جميعا، ولنا في هذا الموضوع في ضبط مصطلح الحضارة والدور (العربي) عودة في مقال آخر.
5
نحن لسنا ضد خصومنا لأنهم خصومنا بل لأنهم يحملون خطاباً إقصائياً (وعنصرياً)، ويرفضون السياق العقلاني والعلمي، ولسنا مع أشخاص بعينهم لأجل عيونهم (وإ ن كانوا ذووا قربى) إنّما معهم في تصوّراتهم التنويريّة إذا كانت تنويريّة وعلميّة وتعدّديّة؛ فماذا يبقى من خطاب التنوير إذا حمل ما يرفضه وينقده وإذا قدّم تصوراته مبتورة من الحجج العقلانية والعلمية؛
فهل نصطف معه لأنه يزعم التنوير؟ ألا يكون الاصطفاف هاهنا أصوليا وشخصانيا يعتدي على ما نظنه ونزعمه مشروعا تنويريا!!