ثمة ملتقيات ومؤتمرات وندوات تُعقد في ثقافتنا يكون مدير الجلسة فيها مكررًا وكأن الله لم يخلق غيره.. ومشاركون ملّهم الحضور وحفظ ما سيقولون قبل أن ينطقوا.. والطامة الكُبرى أن يكون المؤتمر عن فلان من الأدباء للحديث عنه بوصفه شاعرًا فيجيء من يكتب عنه ويقدم ورقته بوصفه ناثرًا والعكس صحيح..- و لا أعرف كيف قفزت ورقته اللجنة العلمية - ويجيء من يلتزم بمحاور المؤتمر فيكتب عن الشاعر ورقة بوصفه شاعرًا لكن سيموت إن لم يُسهب ويُذهب وقتنا قبل وقته في الحديث عن علاقته بالشاعر وأنه شرب معه شايًا وخرج معه في سفر وصحبه في الحج وضيّعه في عرفة ورجمه بمنى خطأ.. وكتب عنه ورقة في مؤتمر آخر ويمر الحديث (المهم عنده) تاركًا (الأهم عندنا) حتى ينسى ورقته فيسكته مدير الجلسة المكرر (ليس لتميزه فحسب بل لندرته –حفظه الله-.
وتجيء أخرى لتقدم ورقة عن الشاعر فتشير قبل البدء بأن الشاعر أستاذ لها وناقشها في الماجستير وقدم لكتابها وأثنى عليها حتى غُشي عليها وعلينا.. فضول أحاديث لا تهم المتلقي المتوقد للمعرفة في شيء لكنه الاستعراض أمام المرآة التي لا يرى أحدهم نفسه فيها.. وفاتهم أن انعكاس المرآة أجمل من النظر إليها في أحايين..!
وفي ندوة للحديث عن واقع اللغة العربية بعضهم يلحنون ويحاضرون ويتكلمون بالعامية، بل ثم من يرى منهم أن العامية أقرب إلى التلقي وأولج في الأفهام وكأن العربية قصرت عن ذلك – وحاشاها- مع أن الغلبة والقوة لها.. ويبدو أن الذي يُسوغ لمثل هذا العبور لا يملك تأشيرة الحديث بالعربية ولا يستطيعها فآثر عاميته بحجج واهيةِ تُضحك الجَاهل قبل العاقل.. وإلا فكيف سول له ذوقه أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو أعلى وأسمى.. والعجيب أن يصدر مثل هذا اللغو من بعض القوم الذين يحملون أسفارًا من الشهادات والكفاءات وتصدروا للمشهد.. لا أتحدث عن حاجتنا للغة الجاهلي الذي يحتاج معه المتلقي لسبر القواميس بل أدعو للغة الوسطى التي يستوعبها الأمي ويدركها الطفل السؤول والحضور النخبوي – ومن النخبة من لا يعرف الفاعل من المفعول-!
ويعظم أمر هؤلاء إن كانوا ينتمون للعربية تخصصًا والأمر من ذلك حين يلحن آل اللغة لحناً لا يلحنه الذي لم يتخصص بها وإنما درس نحوها في غير كليتها فأتقن! والغَيرة على العربية ليست حكرًا على كليات اللغة العربية بل على كل مسلم فالغيرة عليها من الدين.. (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).. ففرق بين أن يُلاغي أحدنا اللغة في درجة ما مع موقف ما وبين أن يكسوها الوقار في مكانها..!
وفي سياق آخر متكرر في ندوة أخرى - ليست أحسن من سابقتها - وحين تحين ساعة إلقاء الأوراق المقدمة يضيق نَفس بعضهن من بعضهن ببعضهن.. فهذه تريد أن تعتلي المنبر لتحبر ورقتها تحبيرًا.. – وكأنها لن تُسمع إلا به -(والمنابر كلها تُعري لا تواري وتخفض أو ترفع لكلا الجنسين كل بحسب)- وأخرى تريد أن تبقى في معزل يحفظها من أنظار ليس ثم ما يوجب شرعًا رؤيتها..وليس ثمة ضرورة أخرى.. وأخريات يؤثرن الصمت أو أنهن مذبذبات بين الفريقين لا إلى هؤلاء أقبلن ولا عن هؤلاء أدبرن.. ويغيب الحوار الذي لطالما أنشدناه.. وتبقى النظرات وليت النوايا تحسن وقتئذ.. والسيد (اللاقط) ينأى في دنوه من يد المشارِكات.. فالتي تريد أن تلقي ورقتها تدلف إلى هناك ولا تحتجب عن الجنس الآخر.. فالبعض يقلقه الحاجز (البارتشن-الحاجز الذي يُغيب بعض المهارات التواصلية).. وبعضهن يغادرن المكان بعد أن يفرضنّ مبدأهن فإما أن يدنو (اللاقط) منها لتقرأ ورقتها وإلا فلا.. وإن كان لا بدّ تتخذ النأي سبيلاً وخلاصًا.. وقد يحقق لها مرادها بعد جدل عقيم.. وبعد عرض مشاركتها أو الاستماع لمداخلتها ثمّ من ينتقم من موقفها بأثر رجعي- وحشي تدركه بالعين فنظرة التجاهل حاضرة ونبرة التعالي بارزة، بل حتى حسد أن يُعلق على ورقتها بادية ويجيء إنصافها متأخرًا رغم أنها لم تنتظره ولم تطلبه..!
والغريب أن إحداهن ترضى أن تصارخ لتصعد المنبر (لمفردها أو تتوسط بعض زملائها) وحين تلتقط لها صورة من أحد الحضور لينشرها في مواقع التواصل الاجتماعي لا ترضى ذلك، بل يصل بها الأمر أن تطلب ممن نشرها أن يحذفها.. فسبحان الذي ركب التناقض في نفسها.. ما ترضاه هنا لا ترضاه هناك.. أي قسمة ضيزى هذه.. وأي تناقض هذا الذي يثير أسئلة استفهاماتها إعوجاج لا يستقيم..!
ومنهم من يداخل مداخلات بين الجلسات لأجل أن يقول: أنا هنا انظروا لأناي ولا تنظروا لجهلي.. مداخلته في واد والأوراق المقدمة في وادٍ آخر أو أن تكون من صميم المشاركة لكن لا يسلم من تضخيم ذاته -الجذلى بما حفظت لا بما غاب عنها-.. ثمّ من يريد أن يبرز في كل شيء ويحضر كل شيء ولا يفوته أي شيء.. وهو في حقيقته لم يبرز، بل غار في مكانه.. ولم يحضر بل غاب في حضوره.. وفاته كل شيء لأنه لم يمسك بشيء!!
وفرق كبير أن يقام مؤتمر للأدباء وبين أن يكون المؤتمر للأدباء الأكاديميين.. وبين أن يكون المؤتمر للمثقفين.. وبين من يدير الجلسات من الأكاديميين ومن يديرها من الأدباء أو المثقفين.. وكأن المؤتمر أقيم بالمناصفة وإن كان لا يقبل القسمة بين اثنين وثلاثة إلا ما ندر وما قد سلف.. وحَسنٌ حين يكون الأكاديمي أديبًا شرط ألا يكرر نفسه فيمرض الأدب..! والمُنى أن يتزحزح هذا التخصيص (الأدبي) ويُعاد النظر فيه.. والمُنتهى أن يكون مؤتمرًا (للمثقفين) فالثقافة أوسع من الأدب..!
وبون شاسع بين التوصيات التي تُعيد نفسها وبين التنفيذ الذي يغيب في كل عام مرتين مرة للسوابق وأخرى للواحق..!
فالمشتغلون في الأدب ليسوا كلهم أدباء.. ومن كتب رسالة ماجستير ودكتوراه عنه وفيه لا يعني أن تخوله لأن يكون أديبًا، بل لا تُسلم له بالأدبية المطلقة.. فلا يستوي من ولد والحرف هبة ربانية فيه بمن اكتسب الحرف قراءة ودربة أو ملك العروض إتقانًا وكتب الشعر هذيانًا.. وشتان بين من يكتب الأدب أدبًا وبين من يخرج ما في جوفه كيلاً يَردى فيُردي.. فالنفس السوية تحب الأدب الذي هو أكبر من أن يكون حرفًا منصوصًا بل سلوكًا وفكرًا ساميًا ظاهرًا وباطنًا يمتاح ممارسة وعناية لا في التنظير فحسب.. وفرق بين أن يُعد الأدب وبين أن يُكتب.. فالأدب ليس إملاءاتٍ ولا تأليفًا ولا ترفًا ولا أمرًا طارئًا بل روحًا أخرى تقاسمك الوجع وتشاركك كل المشاعر.. فكلما اشتد نزع الروح بالوجع كان الأدب أثبت وقلبه مطمئن بالقبول والتداول بين الأنام.. فالأدب كائن يحيا بالشعور ويموت بالشعور وبين الحياة والموت برزخ لا ندرك كنهه وعجزنا عن فهم قرار ماهيته.. هو أعقد من الروح وأقرب لها.. والأدب كله – شعرًا ونثرًا- لم يؤت من الوجع إلا قليلاً..! فهو ترجمان الروح للروح!
وثم من يعيب على المؤسسات – أيًا كانت- أنها لم تحاضر عن أديب من الناس وحين يُدعى الأديب يعتذر.. وحين يدعى بعض أهل الأديب المتوفى للحديث عنه يرفضون.. ولا أفهم كيف يعاتب وحين يُطلب يغور اعتذارًا ويمد أسبابًا أشبه ما تكون بتأتأة الطفل..! فعلام الصراخ في كل وادٍ وحين تُدعى في الوادي المعني تتوانى وتتوارى.. وتكاد أرض شكواه تفجر ينبوعًا من (هياطه)!
وفي بعض المؤتمرات ما هو على هامش المؤتمر يكاد يكون أرجى من جودة الأوراق وكبوة الموضوع ونكبة المشاركات وإفلاس المداخلات.. وقد يتشابه المتن والهامش.. «لكن لا يستوي قلم يباع ويشترى» ولا يستوي حِبر وحَبر.. وإقبال وإدبار.. وحضور ومحظور..!
وبعض الذين يقدمون الأوراق مشهورون في الإعلام بضاعتهم كاسدة ولا يملكون سوى فتح أفواههم وأهوائهم لا أقلامهم.. وبعضهم على النقيض مغمور في الإعلام وعند الأعلام.. لكنه أثبت نفسه بقيمة ما يقدمه لا بقيمة ما تمليه عليه النخب حيث مالوا مال.. فارتضى أن يميل فردًا و(هو الحشود) ولا يركن لجماعة (وهم أشتات).. فسمو حين تغترب ثقافيًا.. وسمو حين تركز مبادئك.. فالمثقف الحقيقي هو الذي لا يشبه النخبة (ولا يركن لشللية) بل الذي يتجاوزهم اختلافًا مائزًا لا خلافًا طائشًا.. فالثراء في الاختلاف لا في التشابه والتناسخ..!
وبعضهم يجيء للملتقى وعن مضمونه ما درى.. يهز رأسه للأوراق المقدمة -وحين تسأله تقتله إحراجًا.. جاء ليسلم –مستعرضًا بازًا- على من يعرف ولا يلتفت لمن لا يعرف.. وقد يصد عمن يعرف ويتعرف على من لا يعرف ليعرف..ثم يأكل لحم أخيه ويشرب أحاديث الإثم واللغو.. فيمضي بعد أن ثقلت موازينه وخفت..!
من أول السطر:
الثقافة الحقة أن تعيش بقيم ولا تبتذل نفسك وتهزم -مثل الذي سبقك دون أن تعتبر-.. وتتنازل لُيرضى عنك في المشهد فتردى أولى وأخرى..!
من آخر السطر:
المثقف (الحقيقي) أينما توجهه يأتي بخير.. وفرق بين الهوى والتقوى!
- تهاني العيدي