بين الأسود والأبيض وعصر الألوان وقت مستقطع ومسافة ليست مختصرة بين شوطين وقفنا على حواف تأرجحنا عليها وطرق تعرجت بنا في انخفاض وارتفاع! وفواصل وقفتْ حاجزاً أمام الأمنيات البسيطة فتآكل بعضها وسقط في يم النسيان وعبر الآخر منها ببحوحة الغبطة والرضا، فقد كنا نعيش فترة النضج الحضاري الجديد والثورة الصناعية ونسير فيه الهوينا، وقد انفتح نصف الباب كحقبة هي بين البين! بين متمسك بقديمه رافضاً أي جديد أو تطوّر وبين متشبث وقافزٍ على كل إرث محاولاً نسيانه بل إلغائه من ذاكرة التاريخ! تنحرف الكتابة أحياناً إلى الأسفل على السطر المخطط دون تعمد لأنها بدايات تعيش الصواب والخطأ فتحيا بالغفران! فتجاوز البدايات يصطدم بجدار الحاجز النفسي الذي يجتذبك نحو الإيهام بالضعف وهو ليس كذلك! وإنما هو غفران تجاوز إشارات الترفع والازدراء! بل حتى رجل النخبة هنا يتشرب من ماء طبيعته بذرة التواضع لأنه لم يجرب غرور المظاهر الزائفة بعد..! على صوت السواقي وأقدام الشيوخ والعجائز كتبتْ رجالٌ في متن الحياة خطوات سيرها وتركت نقاطاً مبعثرة في الهوامش لمن يقف ملتقطاً خروم الزمن وعثرات الصُدف!
أسابق الريح بدهرٍ أراهن عليه لم يقدر عليه الموت عند جرير فلا شيء يطاوله فظفر بما لم يظفر به الفرزدق! بينما تبعثرتْ خطواتي دون جدوى! فلا انتصرتُ على الريح ولا الدهر أسعفني، وقد غلب الموت شيوخاً فيهم بقيّة إذا نظرت إليهم علمت لم? بكى الشعراء على أطلالهم وذكروا منازلهم...
لحظات الانتظار تلك التي كانت خطوط الطول والعرض على الشاشة عندما كنّا ننتظر أن تُفتح أبواب التلفاز كستارة المسرح حينما لا يكون (الإريل) على وجهته الصحيحة أشبه بانتظارنا في صف طويل لنلتقط بعض الرغيف من أمام صاحب الفرن! انتظار يعقبه انتظار حتى تعلمنا كيف نتجاوز الطمع بقناعة نصف الصورة حين تبدو حيث لا يهم نقاؤها وإن ظلت تختفي أحياناً وتظهر فالصورة تنتزعنا نحوها القناعة المشبعة بالتصوف النظري، وهذا مسار سلوكي دائم في حياة، فما يقع في يدك لم يكن يعني للآخر سوى رزق ساقه الله لك فلا يُشبع نظره فيه وإنما يشيح بوجهه بغبطة المتواضع وبأخلاق البساطة المتدثرة بثوب الوراثة التي لا يحيد عنها! أصبحت لدي قناعة أن المجتمع هو سبب تراجع التعليم يوماً ما! لأن تفككه يعني بُعده عن أساسيات التربية وهو التآلف بين أفراده، فانقبضت القلوب شيئاً ما! حينما يعيش المجتمع في ترابط مكاني فلا شك أن القلوب تتآلف فما بعُد عن العين حريّ أن ينأى عن القلب! لذلك كان سور المدينة الوهمي الأم الرؤوم التي في حجرها ينام الأبناء حيث يسخي الأب للمعلم بلحم ابنه ويكتفي بالعظام مقابل صلاح التربية والتعليم! وهذا مجازي لكنّه تعبير جماهيري في الحرص على التربية والتعليم! حينما تستعير الأمهات ما ينقص عن حاجة البيت من جاراتها فإنها تعي تماماً روابط العائلة الواحدة داخل بيت الحارة فتبادل المنافع حاجة اجتماعية أكثر من كونها اقتصادية! الصورة تنسج خيوطاً في العقل يتصل بعضها ببعض بالأسود والأبيض أو بالألوان وبرداءة أو بنقاء ولك الخيار! فليعذرني ميخائيل نعيمة إذا استعرت عنوان كتابه القديم (كان ما كان) حتى بعد أن مات وشبع وبليت عظامُه حيث صورته وهو كهل تختلف عن صورته على غلاف الكتاب وهو شاب طُلعة في بداياته وحكاياته القديمه داخلها فما أن ترى الصورتين واختلافهما الطبيعي حتى تدرك اختزالنا للحكاية فيهما فتتذكر كان ما كان.
- زياد بن حمد السبيت