-1-
أشرتُ في الحلقة السابقة إلى إحدى الفرص الضائعة في مشهدنا الثقافي، وهي فرصة الأسئلة الجريئة التي أثارتها أحداثُ الحادي عشر من سبتمبر حول بنيتنا الثقافية، والمناخ الحواري الذي واكبها على المستويين: الحكومي والشعبي، وكان من الممكن – كما أسلفت - أن يحقّق هذا الوضعُ الجديد قفزةً نوعية في مستوى طرحنا الفكري والثقافي، وفي طريقة تعاملنا مع الأزمات بوجهٍ عام .
ولئن كان هذا ما شهدناه في السنوات الثلاث الأولى (على الأقلّ) من بعد الحادثة (2001 – 2004م)، فإنّ ما تلاه كان مخيّباً للآمال؛ إذ حُجّمت أسئلة الأحداث (بشكل غير مباشر) داخل المؤسّسات الرسمية كالتعليم مثلاً، وتعرّضت في بعض الصحف لشيءٍ من (الفلترة) أو التوجيه، فأصبح التعاطي من داخل المؤسسة محدّداً بأسئلة دون مستوى الأحداث، ومؤطّراً - في الغالب - بإجابات جاهزة أو متوجّسة من تبعات الاختلاف، وفي المقابل كان التعاطي معها خارج المؤسسة فوضوياً، ومفتوحاً على الصراع القديم المتجدّد بين التيارات، وجداراً قصيراً لجميع أشكال التوظيف (الديني، والسياسي، والاجتماعي)، وهو ما نلمس امتداده اليوم في مساحة واسعة من مواقع التواصل الاجتماعي!
-2-
ولو أردنا تمثّل أهم العوامل التي أدت بنا إلى هذه النتيجة لكان من الممكن جمعها في ثلاثة عوامل رئيسة :
أولها : أننا لم نكن مهيّئين - في الأصل - للتعاطي مع الأزمات بشكل واعٍ. يصدق هذا على المؤسسات والأفراد، وعلى المثقفين وعوام الناس، وإن كانت ثمة فئة مشغولة بهذا الهاجس فقد مارست نشاطها في الظلّ؛ لاعتبارات تخصّها أو لموقفها السلبي من المشهد الثقافي بعد تجربة مرّة في العقود الثلاثة الماضية. إنّ التعاطي مع الأزمات بنيّة تحويلها إلى مكاسب يحتاج إلى فكر خلاق، يمتلك دقة الملاحظة، وعمقَ القراءة، والقدرةَ على طرح الرؤى والمبادرات، وهذا لن يتوفر إلا بمناخ يحتفي بالسؤال دون شرط مسبق، وبإرادة عليا وقيادة ثقافية تدفع باتجاه التعايش والتكامل، وتؤمن بالاختلاف وتسعى إلى تأمينه .
وثانيها: أنّ كثيراً من الأفكار التي طرحها الكتّاب في مقالاتهم أو تضمّنتها توصيات (الحوار الوطني) اصطدمت بمؤسّسات غارقة في الترهّل، عاجزة كلّ العجز عن التفاعل مع التوصيات النوعية التي تستمدّ طاقتها من فكرة التغيير؛ لذلك تعثّرت مجموعة كبيرة من الأفكار، كان من الممكن أن تسهم في تغيير رؤيتنا لذواتنا وللآخرين ولما يحيط بنا من معانٍ وأشياء.
وثالثها : أنّ بعض رموز المشهد الثقافي لم يستطيعوا الخروج من عباءة المذهب أو التيار أو (الحزب) في تعاطيهم مع أسئلة الأحداث، ولم يستطيعوا التحرّر من شوائب تكوينهم الخاص، ولا من تبعات الاستقطاب الحاد الذي تعرّض له المشهد في الثمانينيات والتسعينيات. فانتقلت الأسئلة بينهم من (الاستفهام) إلى (الاستنكار)، ومن (التحقّق) إلى (التبرئة أو الإدانة)، وبدلاً من خدمة السؤال الجديد صرنا نراه يُستخدم لتأصيل مواقف مسبقة؛ لذلك جاءت الإجابات – في هذا السياق - جاهزة، لا غاية لها إلا إسقاط من يمثّل أمامها دور الخصم، بحجة دعم التطرّف والإرهاب آناً، أو بحجة التغريب والإفساد العقدي والأخلاقي آونة أخرى!
وبكل ما سبق خرجت الأسئلة التي فرضتها الأحداث من ظرفها، وأصبحت مرتهنة لأدواء ثقافية لاحدّ لها، ولم يبق من أهمّ مشاهد حوارنا المتألّق في بداية هذه الألفية إلا الصوت المرتفع .. نرسله لنعوّض به عقوداً من صمت الاختيار أو الاضطرار !
-3-
كان من الطبيعي - والحال هذه - أن يملّ الناس هذا الذي سمّيناه حواراً، وكان من الطبيعي أيضاً أن تخفّ درجة التعويل عليه من جميع الأطراف؛ فتجاوزتنا هذه الفرصة معنوياً دون أن تخلّف لنا إجابات عميقة، أو تفضيَ بنا إلى نظريات جديدة في الحياة، أو تترك لنا رؤى جادة في إدارة التعليم والإعلام، وفي أقلّ المأمول: لم تدرّبنا على صناعة السؤال، ولم تخلق لنا مناخاً يحفّز على توليد أسئلة المعرفة، تلك الأسئلة التي لا نسعى إلى الإجابة عنها، ولا ننتظر منها تصنيفَ الأشياء بين حقّ وباطل، أو صواب وخطأ، بقدر ما نتوسّل بها إلى اكتشاف أنفسنا، وتحديد موقعها من الأزمة وتبعاتها، وتلمّس أفضل الطرق للمرور من خلالها إلى مستقبلٍ أجمل .
مضت هذه الفرصة، ولم تثرِ إلا قائمة فرصنا الضائعة، وبقي الدرس الوحيد الذي نخرج به من كلّ أزمة دون استيعاب: أنّ الأزمات لا تمنح إلا من يمنحها !!
- د. خالد الرفاعي