ابتكر بعض الدارسين معياراً جديداً استطاع به أن يقيس موسيقا الشعر عند حسن القرشي، وذلك أنه في مبحث كامل من رسالة ماجستير جاء في صفحة وثلث الصفحة فقط جعل السمات الدالّة على موسيقا الشعر هي عناية الشاعر بمظهره وبكل ما يحيط به، وأمعن في وصف هذه الأناقة بأنه زار الشاعر في بيته ورأى التنظيم والجِدّة في كل شيء، وأنه مزود بالديكورات والتحف الأثرية النادرة، والمكاتب والأضواء المختلفة الألوان، وبناء على ما رأى عبّر عن نتيجة هذه الفخامة إذ قال «وعرفت أنني أعيش في جو شاعر ولو لم أر الشاعر، كل هذا يدل على ذوقه الحساس»! وقرّر أن الموسيقا ظاهرة في شعر حسن القرشي لأن حسناً القرشيَّ يُكثر في شعره من إيراد الألفاظ الدالة على الموسيقا، وأسماء آلات الطرب، كقيثارة، وعود، وناي،...!
وبدون أن يستشهد ببيت واحد على الموسيقا في شعره ذكر أن القرشي «جسّد في شعره ما قرره المنظرون وهو أن فنّ الموسيقا في الشعر علم يعنى بالجرس الخارجي والداخلي»!
ولقد عشت مع بعض شعر القرشي أكثر من سنةٍ بحثيةٍ تأملت فيها شِعره، وطالعت كثيرا من النقد والتحليل لشعره؛ فلم أجد أن الموسيقا يمكن أن تمثل سمة تميّز شعره من غيره من الشعر.
مهما تأنق الشاعر في ملبسه، ومهما كان أثاث بيته فاخراً متناسقا، بل مهما بلغت الموسيقا في شعره، فهذا لا يتيح لباحث أكاديمي أن يصدر الحكم على موسيقا الشعر من خلال الملبس والأثاث الفارِه، وبدون أن يستشهد ببيت واحد يحلل المظهر الإيقاعي فيه.
لقد وُصف البحتري بأنه «من أوسخ خلق الله ثوباً وآلة وأبخلهم على كل شيء، وكان له أخ وغلام معه في داره، فكان يقتلهما جوعاً، فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان، فيرمي إليهما بثمن أقواتهما».
وبالنظر إلى أن الحكم على الموسيقا يكون من خلال عناية الشاعر بمظهره وبأثاث بيته، فيا ترى أي شعرٍ جافٍّ غليظٍ الإيقاع كزِّ الألفاظِ سيكون شعر البحتري؟
قال الحصري وقد أورد أبياتاً للبحتري: «وهي حلوة الرويّ، مليحة العروض، حسنة الطبع»، وقال الثعالبي: «وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى، التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة. والفصاحة والسلاسة»، وهذا ما يؤيده رأي ابن الأثير: أن البحتري أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، وجمع في ذلك طرفَي الرقة والجزالة.
وقال عبدالله الطيب عنه: إنه «رقيق الشعراء المحدثين جميعِهم، وأطبعُهم وأسلسهم من غير خروج عن المتانة في السبك، واتباع المنهج الفصيح في تقعيد الكلام، ولن تجد شاعراً يفتنّ كما يفتنّ البحتري في استغلال الثلاثيات من الكلمات، واستعمال المصادر المنونة، وألفات المدّ، وحروف الإشباع، كل ذلك في خفة ورشاقة»، والطيب يوافق في ذلك ابنَ رشيق إذ يقول: «وأما البحتري فكان أملح صنعةً وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة».
لقد كان البحتري مضرب مثل في موسيقا الشعر، أورد ذلك ياقوت في معجم الأدباء، وجاء في غير واحدة من الرسائل التي أوردها الصفدي في أعيان العصر، ولو تأملنا الحديث عن بذاذته لحكمنا على شعره بأنه من أغلظ الشعر وأشده تنافراً، إلا أن الدراسة والتحليل تَقِفنا على صورة مختلفة تماماً عما توحيه صورة هيئته الرثة!
سؤال غير بريء: كيف قبلت دراساتنا الأكاديمية العلمية مثل تلك الأحكام؟
- د. سعود بن سليمان اليوسف