أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
لا يخفى أن وطننا الحبيب المملكة العربية السعودية وطن الشموخ والعزة، خصه الله بخصائص عظيمة، وامتن عليه بنعم وآلاء جليلة، وأفاء عليه بما يعجز الألسن عن الشكر والثناء، ومن أعظم نعمه عليه بعد توحيد الله، وإخلاص العبادة له سبحانه نعمة الولاية الحكيمة، والقيادة الفذة، والحكم الراشد، الذي يعد في هذا العصر الزاهر امتدادًا لحكم المؤسس الباني المغفور له - بإذن الله - الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه -، ثم نعمة تطبيق الشريعة الإسلامية دستورًا ومنهجًا، وحكمًا وتحاكمًا، وتطبيقًا في جميع شؤون حياة الناس، وحماية لأصل الأصول، وأساس القبول: توحيد الله جل وعلا، وسيرًا على نهج سلف الأمة المتميز بنقائه وصفائه، منن من بها سبحانه وتفضل على هذه البلاد المباركة، وآلاء لا تحصى ولا تعد، ونعم تترى تحتاج إلى تثبيتها بالشكر، يكفي في ميزة هذه الدولة قيامها على شريعة الله، وعنايتها بها، فهي تطبق حكم الله، تقيم حدوده، وذلك في قضاء نزيه مستقيم، لا سلطان لأحد عليه غير سلطان الشرع الحنيف، وتحكم شريعة الله، وتعلي شأنها تعلمًا وتعليمًا، وعناية بمقاصدها وأهدافها، والعمل على نشر قيم الشريعة الغراء السامية في العالم أجمع.
ومن نعم الله ما وفق إليه ولاة أمرها حفظهم الله من اتخاذ التدابير الواقية، وسن القرارات والأوامر لصد سلبيات الأزمات عن بلادنا حرسها الله، بخصوصية مكينة ثابتة، وهوية واقعية راسخة، تستدعي الخبرات، وترصد الوقائع، وتعتمد الأصالة، وتنشد المثالية، ليكون أثر الأزمات والمتغيرات محدودًا، ويدفع الله جل وعلا عن البلاد والعباد تلكم الآثار، وهذا مرده إلى توفيق الله لولاة أمرنا وتسديدهم، ثم ما تميزوا به من خلال وخصال، فإن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، يحمي به الله البلاد، وينصر به المظلوم، ويقمع به الظالم.
ومن صور تحكيمهم للشريعة الغراء العناية بالشورى في منهج الحكم، أخذًا بالتوجيه القرآني: {وأمرهم شورى بينهم}، وقوله سبحانه: {وشاورهم في الأمر}، قال القرطبي رحمه الله: «أمر الله تعالى بالشورى، والشورى بركة، وما ندم من استشار ولا خاب من استخار. وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي»، وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليًا وأنت تأخذه مجانًا، وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة -وهي أعظم النوازل- شورى، قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، قال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية».
وهذا المبدأ القويم، والسياسة الشرعية الحكيمة انتهجها وطبقها مؤسس هذا الكيان الشامخ وموحد هذه الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله-، لما دعا رحمه الله إلى الشورى كركيزة أساسية في حكمه، وأمر بتأسيس مجلس الشورى -بعد مراحل تعد نواة له - وافتتح دورته الأولى في 14-1-1345هـ، وكان رحمه الله يلقي خطابًا ملكيًا يفتتح به أعمال كل سنة من فترات مجلس الشورى، وفي هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الشورى العريق، التي أضحت واقعًا ملموسًا، يرى المواطن في هذه البلاد آثار قراراته السديدة الموفقة، وأصبح مجلس الشورى السعودي نظامًا مطورًا، وأسلوبًا متميزًا، وجهازًا إداريًا أساسيًا في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وكان ولاة الأمر - حفظهم الله - هم من سدد هذه الحقبة المتميزة، ودعم مسيرتها، وذلك منذ أن أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - تحديث الأنظمة في البلاد، وأعلن عبر خطابه التاريخي في 27-8-1412هـ عن إصدار الأنظمة الأساسية الثلاثة للمملكة العربية السعودية: نظام الحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، فبدأت مرحلة جديدة في مسيرة الشورى، تكتمل دورتها كل أربع سنوات، ويعاد تشكيله بنخبة من الأعضاء المؤهلين، ويبارك خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- هذه المناسبة، ويتشرف رئيس وأعضاء المجلس والمواطنين بسماع الخطاب الملكي الذي يعد تأكيدًا على هذا النهج الإسلامي السديد، والسبيل الرشيد المبني على الشورى، ودعمًا لمسيرة الشورى، وتنويهًا بمكانتها ومنزلتها لدى ولاة الأمر -حفظهم الله-، واستمر الحال حتى هذا العهد الميمون الزاهر، عهد ملك الحزم والعزم، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أولى هذا المجلس عناية قصوى، واهتمامًا خاصًا كان له أثره الفاعل المؤثر في تفعيل دور المجلس وتحقيق أهدافه، وكلمة خادم الحرمين الشريفين رعاه الله يوم الأربعاء 15 ربيع الأول 1438 هـ الموافق 14 ديسمبر 2016 م،التي ألقاها بمناسبة افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة السابعة لمجلس الشورى وذلك بمقر المجلس في الرياض هي مثال على هذه السنة الحميدة، والقيم الراسخة الأصيلة، لاسيما أن هذه الدورة هي أول إعادة في عهده الممتد بإذن الله، ولذا كان الجميع منتظرًا هذه اللحظات التأريخية، مترقبًا هذا الإعلان؛ لأنه يلخص رؤية المليك المفدى، ونظرته إلى المستقبل، ويرسم السياسة الداخلية والخارجية للدلة، وقد جاءت هذه الكلمات النيرات، والعبارات المليئة بالمعاني والدلالات، وحملت في طياتها مضامين عظيمة، وإشراقات متميزة، أشار إليها -حفظه الله- ببيانه الناصع، وأدبه البارع، فكان -حفظه الله- كما قال لبيد: «خطيبًا إذا التف المجامع فاصلاً»، تلكم الكلمة التي تعد بحق وثيقة وطنية، ذات دلالات وأبعاد غاية في الأهمية،يستشرف من خلالها المواطن العادي والمسؤول سياسة هذه الدولة المملكة العربية السعودية، وموقفها تجاه قضايا الوطن والمواطن، وكذلك تجاه القضايا الإقليمية والدولية، ويعلم أن ملكنا المحبوب وولي أمرنا المظفر يولي قضية الوطن والمواطن كل اهتمامه، ويضعها في أعلى مراتب الأولوية لدى جلالته، همه في ذلك إبراء الذمة، وأداء الأمانة، وتحقيق المصلحة العليا للبلاد في توفير متطلبات الحياة المعيشية، وتحقيق الرفاهية، والاستقرار والتنمية الشاملة وفق رؤى إستراتيجية بناءة هادفة بإذن الله.
وقد تشرفت بحضور هذه المناسبة والاستماع إلى هذا الخطاب الملكي، وتأمل دلالاته العميقة، ورأيت أن من واجبي أن أبرز تلكم المعاني والمضامين والدلالات، قيامًا بالواجب، وتعبيرًا عما يكنه القلب من المشاعر تجاه هذا الملك الحكيم الذي حباه الله من الخلال والخصال، ومن عليه بالحكمة والسداد، وقوة الرأي، وصواب القول، ومن هنا فإنني أتناول أهم الدلالات التي تشير إليها هذه الكلمة الضافية، والمضامين التي حملتها، فأما أهم دلالاتها: فهي تشير أولاً إلى مكانة الشورى في قلب خادم الحرمين الشريفين كمنهج إسلامي، وطريق سديد لإدارة شؤون البلاد، يتم من خلاله تفعيل مبدأ المشاركة المسؤولة، والحرص على شمولية هذه المشاركة لتستجيب لتطورات العصر، وتواكب مستجداته، ولا أدل على ذلك من تخصيص هذه المناسبة بالرعاية والعناية، وتمييزها بهذا الخطاب المؤثر، المعبر عن الإخلاص الشديد، والصراحة والشفافية في مخاطبته المجلس برئيسه وأعضائه، ومخاطبة أبناء الوطن من خلاله، وتذكير من تشرف بالانضمام إلى عضويته ومن استمرت عضويته بعظم المسؤولية، وضخامة العمل المتوخى من المجلس في حقيبته القادمة في ظل أزمات، ومتغيرات تحتاج إلى محض النصح، وفتح القلوب والأبواب، وتناول القضايا بمنهجية تحقق التوازن المطلوب، والتوافق اللازم للمعالجات المتنوعة.
ومن دلالاتها المهمة: تركيزه حفظه الله على الأمن والأمان كأساس للبناء، ومكتسب من أعظم الآلاء، ونعمة من أجل النعم، لا تتعم النعم الأخرى إلا بتكاملها، هذا المقصد الشرعي الذي هو من ضرورات الدين ومحكماته، وأصوله ومسلماته،، والذي صارت المملكة بفضل الله مضرب المثل فيه للقاصي والداني، وتأكيده على العمل على كل من شأنه حفظ العقيدة والعقول والأعراض والممتلكات، ويكفل تحقيق الأمن بمفهومه الشامل، ولا شك أن عمران الحياة لا يكون إلا بالأمن، وأن الحياة الهانئة الطيبة الآمنة المطمئنة لا تكون إلا تحت ظلال الإيمان والعمل الصالح: «من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون». وهي كذلك دعوة منه حفظه الله لكل مواطن مخلص لدينه ووطنه أن يكون عينًا ساهرةً أمينةً على تحقيق الأمن لنفسه ومجتمعه، بل ولأمته الإسلامية جميعًا، لا سيما في هذا الأوان المدلهم بالخطوب، الزاخر بالتقلبات الفكرية، والتحديات السياسية والمجتمعية، والمهددات الداخلية والخارجية، فالمملكة العربية السعودية تواجه في الحد الجنوبي العدو الغادر الظالم الذي خان وطنه، وأعان الصفويين على بني جنسه، وهدد هذا الوطن، ووجه سهامه إليه، وفي المنظومة الدولية هناك أزمات لا تخفى، وفي الجانب الآخر قوى الإرهاب وتنظيماته التي لا تفتأ تستغل الفرص وتحاول النيل من وحدة هذا الوطن، فاللهم أدم أمننا، واحفظ وطننا.
ومن الدلالات: الاهتمام بالتنمية الشاملة وفق رؤية حكيمة وخطط علمية ترفع كفاءة الأداء في رؤية تتعامل مع الحاضر وتستشرف المستقبل من أجل التوجه نحو تنوع مصادر الدخل، ورفع مستوى الإسهام، والمشاركة في البناء من الجميع، وبما يستوعب التحولات المختلفة إقليميًا ودوليًا واستحقاقات المستقبل وخططه بصورة تدريجية واقعية في أولويات مرتبة، تنعكس بإذن الله تعالى لمواطن هذه البلاد رفاهيةً وازدهارًا، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، والإسكان والموصلات، بل حتى في المجالات السياسية، قال -حفظه الله-: «إننا عازمون على مواصلة تلك البرامج في جوانب التنمية السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية، ومن هنا فقد وجهنا بإعادة هيكلة أجهزة مجلس الوزراء وما استتبع ذلك من إلغاء العديد من المجالس والهيئات واللجان، ونقل اختصاصاتها إلى كل من (مجلس الشؤون السياسية والأمنية، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، ومن خلال هذين المجلسين بإشراف ومتابعة مجلس الوزراء ستستمر الجهود في تعزيز مسيرة التنمية والوصول إلى تكامل الأدوار وتحديد المسؤوليات والاختصاصات ومواكبة التطورات وتحسين بيئة العمل وتقوية أجهزة الدولة»، وما من شك أنها رؤية تتجاوز التحسين إلى مرحلة متطورة، تعتمد سرعة القرار، واختصار الإجراء، وتكامل الأدوار.
ومن الدلالات المهمة: عناية خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- بالوحدة الوطنية وتماسك البناء الداخلي، والحرص على رأب الصدع، ونبذ كل صور الخلاف، وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في خطابه، حيث أشار إلى أهمية نبذ أسباب النزاع والفرقة والاختلاف، سواءً لبس هذا النزاع ثياب التطرف المذهبي أو الإقليمي أو القبلي، وإشارته - حفظه الله - إلى أن «المواطنون سواء أمام الحقوق والالتزامات والواجبات، وعلينا جميعًا أن نحافظ على هذه الوحدة، وأن نتصدى لكل دعوات الشر والفتنة أيًا كان مصدر هذه الدعوات ووسائل نشرها، وعلى وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة في هذا الجانب».
وهذا تأكيد على ثوابت هذه الدولة المباركة، وسياستها التي تتبنى مبادئ الوحدة الوطنية، وقيم الاجتماع والألفة والمحبة، وتفعيل مبدأ العايش بين مكونات الوطن وأفراده»، ولا يخفى أن تماسك الجبهة الداخلية وقوة اللحمة الوطنية يعكس الجانب المضيء من تأريخ هذه الدولة التي امتدت رقعتها، وشملت هذه الأطراف الشاسعة على أساس من الثوابت والقيم التي تحكم العلاقات بين المواطنين على أساس قاعدة الحقوق والواجبات بعيدًا عن لغة العنصرية والتفرقة المذهبية أو الطائفية أو المناطقية أو غيرها مما يشتت المجتمع ويحزبه، وهي في الإطار العالمي والعلاقات الدولية رؤية واضحة، وسياسة قائمة على مقاصد الشريعة وقواعدها ومبادئها، والتي تؤسس للسلم والسلام، وتتفاعل مع العالم برؤية متوازنة تعتمد قاعدة الأولويات، وتنتهج مبادئ التعايش والوحدة، ونبذ الفرقة والتفرق، والبعد عن أسباب الخلاف، ومواقع التوتر، ودعم كل دعوات السلام والحوار، وهذا ما قامت وتقوم به المملكة العربية السعودية بما لها من مكانة دولية وإقليمية، ولما لقادتها الميامين من ثقل، وتعد المملكة العربية السعودية هذا الشأن جزءًا من مسؤولياتها الجسام، وأولوية قصوى تؤدي به واجبًا تجاه هذا الدين العظيم، فكانت لها مواقف مؤثرة وإسهامات نوعية، لعل من أبرزها دعوة الملك فيصل -رحمه الله- للتضامن الإسلامي، وامتد هذا العمل في كل العهود السابقة، وكان من المبادرات النوعية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- الدعوة إلى حوار الأديان والتقارب بين الحضارات، وكلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في مجلس الشورى تؤكد استمرار هذه الجهود، وامتداد هذه السياسة الحكيمة القائمة على الحوار والتعايش والسلم والأمن، وتأكيد على التمسك بثوابت الإسلام ومبادئه التي تحفظ الحقوق، وتبني الحضارات، وتؤسس لعلاقات متوازنة يسودها الأمن والأمان والسلام والاطمئنان، ويتأكد هذا في الوقت الذي أظهرت النظرة المتطرفة صورة سلبية عن الإسلام، وجرأت خصوم الإسلام وأعداء المسلمين عليهم، وذلك بما ارتكبه أصحاب الأفكار والمبادئ المنحرفة من تصرفات إجرامية، وأفعال مشينة، وجرأت أعداءه عليه، واختطفت المصطلحات الشرعية ووظفتها في انحرافاتها، وحرضت على وحدة هذا الوطن ولحمته، ونسبت تلك الأفعال والتصرفات زورًا وبهتانًا إلى الدين، والدين منها براء، ومارسها أصحابها بأسماء وألقاب، فكانتذه الصور السلبية التي لا بد من تحمل المسؤولية الفردية والجماعية لنقدها وتصحيحها، ولإظهار الصورة المثلى للإسلام، وهذا ما برز واضحًا جليًا في كلمة خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- معلنًا الحرب على الإرهاب وتنظيماته، مؤكدًا العزم على السير في هذا الطريق حتى ينتصر صوت الاعتدال والوسطية، وتندحر قوى الإرهاب، وهذه الجزئية من وجهة نظرنا هي أبرز ما ورد في هذا الخطاب الملكي، فالمملكة العربية السعودية هي من عانى من الإرهاب منذ زمن مبكر، وواجهته في المسار الأمني والفكري، وغدت جهودها قوة ناعمة مؤثرة، وهي تقدم هذه الخدمة لدين الله أولا بتنقيته من خطاب التطرف الذي شوهه، ثم استصلاحًا لأبنائها الذين تنكبوا الطريق، واستجابوا لدعوة الشيطان، ولهذا جاء التأكيد في هذا الخطاب على هذه الآفة التي اكتوى منها بلادنا الحبيبة، ومملكتنا الآمنة، آفة الإرهاب والتكفير، التي تعد أخطر ظاهرة تعاني منها المجتمعات، وامتدت آثارها وتداعياتها حتى شكلت فسادًا وإفسادًا يهلك الحرث والنسل، واستهدفت الأخضر واليابس، ولم يسلم من ضرر هذه الفتنة أحد، يقف فيها العاقل متحيرًا، وتدل دلالة أكيدة على فتنة استشرت، ومحنة استمرت، وشر يجب على عقلاء الأمة التعاون على اجتثاثه واستئصاله، كما يجب منع أسبابه وبواعثه، فلا يكفي أن تلتقي المشاعر المؤمنة، والرؤى المتزنة على رفض هذه الصور الشنيعة، والأفعال المنكرة، والبراءة منها ومن أصحابها، ولا تعالج المسألة ببيان العمومات الشرعية، واستمداد تلك الإدانة من أساليب الإثارة، أو أساليب تنحو إلى التبرير، وإنما يجب أن تتضافر الجهود، وتتكامل الأدوار، وكل منا مطالب بمشاركته، ومتحمل لمسؤوليته أمام الله عز وجل، ثم أمام ولاة أمره ووطنه ومجتمعه، وهذا ما أوضحه -أيده الله- حيث قال: «إن الإرهاب آفة عالمية اكتوى بنارها العديد من الدول والشعوب، فليس له دين ولا وطن، ولقد كان لأجهزة الدولة الأمنية الباسلة جهود جبارة في التصدي للإرهابيين بكل حزم وقوة، ولقد وفقوا ولله الحمد في ملاحقتهم وتفكيك شبكاتهم وخلاياهم إضافة إلى تنفيذ عمليات أمنية استباقية أسهمت بشكل فاعل في درء شرورهم وإحباط مخططاتهم، ونحن عاقدو العزم بحول الله وقوته على دعم وتعزيز قدرات أجهزتنا الأمنية بكل الوسائل والأجهزة الحديثة التي تمكنهم من أداء مهامهم ومسؤولياتهم على أكمل وجه وهي مصدر فخرنا واعتزازنا».
ومن المعاني والدلالات المهمة التي وردت في مضامين هذا الخطاب الملكي: التأكيد على الاستقرار السياسي كمطلب أساس، للمحافظة على كيان الدولة، وتحقيق التطور والنماء، والقيام بالوظائف الدينية والدنيوية، وحماية المنجزات، ولا شك أن هذا المطلب هو رأس المطالب وأهمها، إذ لا يمكن أن يقام الدين، وتنشأ الحضارات، ويقوم الناس بمصالحهم إلا في ظل الاستقرار الذي أساسه التوحيد، ونبذ كل طريق يوصل إلى الشرك، كما قال الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)، وقد تضمن خطاب المليك المفدى ما يفيد تعاهد هذا الأصل الأصيل، والثبات عليه، والاستمرار على العهد الذي قام به الأجداد، وهذا الثبات والاستمرارية يشكلان ضمانًا مستقبليًا يأمن به المسلم من الشرور والفتن والفرقة والاختلاف، ويصبح ما كان في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وقضى عليه حديثًا تتناقله الأجيال للذكرى، حتى لا ينتقض الأساس الذي تحقق بسببه هذه الصورة المثالية، مصداقًا لقول الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا}.
وفي استعراضه -حفظه الله- للمنجزات الوطنية في الفترة الزمنية القريبة التي لا تتجاوز عامين من سني هذا العهد الزاهر دلالة على سعيه الحثيث لتحقيق تلكم التطورات القياسية على الصعيد السياسي والاقتصادي التي شهدت اعتماد مشاريع جديدة تسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل وفي قطاع التعليم والتدريب باعتبار أن هذا المجال هو أساس كل نهضة وتقدم ورقي في شتى المجالات « على الرغم من التقلبات الاقتصادية الدولية وانخفاض أسعار النفط، والفضل -بعد الله- يعود إلى السياسات الاقتصادية المتوازنة والحكيمة التي تتبعها الدولة في ضبط الأوضاع المالية العامة، والمحافظة على الاستقرار والتوازن بين الموارد والإنفاق على المشروعات التنموية الكبيرة في جميع القطاعات»، وفي المجال الحيوي المعاصر الذي يعد محل اهتمام الدول المتطورة مجال الطاقة والبيئة فقد عبر خادم الحرمين الشريفين عن اهتمام القيادة بهذا المجال المتمثل في دعم كل شأن محافظ على البيئة ورصد مبالغ كبيرة لتمويل البحوث المتعلقة بها.
ومن المضامين المهمة التأكيد على منهج المملكة العربية السعودية الثابت فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والشؤون الخارجية وعلى الأخص قضية فلسطين، تلك القضية التي ما فتئت المملكة قيادة وشعبًا تدعمها بكل الوسائل المتاحة سعيًا إلى تحقيق العدل ورفع الظلم عن هذا الشعب حتى ينال حقوقه المشروعة.
وهذه السياسات الحكيمة التي تنطلق فيها دولتنا المباركة من التمسك بالإسلام وقيمه وأحكامه، والشعور بشعور الجسد الواحد الذي يجعل قضايا المسلمين وما يحل بهم فوق كل اعتبار، وهي في ذلك تسهم وتشارك بكل ما أوتيت من ثقل وقوة عالمية لتوظف مكانتها العالية ومنزلتها المنيفة في مشاركة المسلمين قضاياهم ومعاناتهم، وما مواقف دولتنا المباركة من اليمن وسوريا وكافة الدول المنكوبة إلا شاهد على ما ذكرت، وها نحن نشعر وبكل فخر واعتزاز أن بلادنا الحبيبة، ووطن الإسلام المبارك يفرض نفسه في كل المحافل الدولية كرائد للحزم والعزم، وقائدنا وملكنا بمبادراته وحكمته وحنكته يسعى جاهدًا لتذييل التحديات والعقبات، وتجسيد الطموحات والآمال واقعًا حيًا، وتقوم على هذه الأسس التي ينطلق فيها من ميزات الإسلام وخصائصه وقيمة وثوابته، وتنبذ كل مظاهر الغلو والتطرف، والإرهاب والإفساد، ويكون الخطاب الوسطى هو الصورة المثالية التي تفرض نفسها كبديل بطرف النقيض، فالحمد لله الذي وفق خادم الحرمين الشريفين إلى مثل هذه المساهمات المؤثرة، التي غيرت كثيرًا من المفاهيم والتصورات التي كان يحملها البعض عن الإسلام عمومًا، وعن بلاد الحرمين خصوصًا.
وبعد: فهذه كلمات خادم الحرمين الشريفين القائد الفذ، والإمام العادل، ملك الحزم والعزم، الذي حدد في هذا الخطاب الملكي السياسية الحكيمة الداخلية والخارجية، والمنهج السديد، والقيم النبيلة، والقرارات الإستراتيجية التي تقود المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة.
وحقًا إنها كلمات من القلب نفذت وإلى كل القلوب وصلت، ويقيني أن كل مواطن يشعر بالفخر والاعتزاز والغبطة والراحة وهو يسمع هذه العبارات من خادم الحرمين الشريفين تفيض عليه هذه المشاعر وتشعره بالرضا وترسم له تطلعات القيادة للمستقبل القريب والبعيد، فالخير بإذن الله متيقن، والولي مرفوع، والعدو موضوع.
فحييت يا خادم الحرمين الشريفين، وسدد الله خطاك وبارك الله مسعاك، وحماك الله من كل سوء ومكروه، سر ونحن جنودك الأوفياء وإلى مراقي العز والعلا.
والله أسأل أن يديم علينا أمننا وإيماننا وولاة أمرنا وأن يوفقهم إلى كل خير ويحميهم من كل سوء ومكروه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.