رمضان جريدي العنزي
هناك من يعاني من ترهل حاد في العنتريات التي ما قتلت ذبابة، ولا صادت غراباً، ولا قتلت فأرة، ولا حوت جربوعاً، ولا نازلت عقرباً، وإذا رأى صاحبها ثعلباً سقط مغشياً عليه وتماوت، مجالسنا تتضخم بهذه النوعية الرثة من البشر، الذين يملكون القدرة على الضحك على الناس، وتحويلهم إلى مجرد صدى لما يقولون، كلام يتلوه كلام، وسرد يعقبه سرد، وتأليف قصصي مجنون لا يستوعبه العقل الراجح، مبالغات خرافية، واستعراضات لغوية، وطقوس مميزة في اللبس والجلوس والإلقاء والكلام، مصرين على قناعاتهم الغبية الخائبة، يتغيّر العالم وتتغيّر توازناته وشعاراته، إلا هم لا يتغيّرون ولا يتبدلون، ويفضّلون أن يكونوا كجذوع النخل لا يحركها شيء، وعلى الرغم من أخطائهم السلبية الفادحة، وقصورهم البائن، إلا أنهم يحبون تكرار البهت ذاته، والمسرحيات الكوميدية نفسها، ومهرجانات التهريج وحدها، لديهم انبهار نرجسي بالذات، ويحلمون بما وراء الإدراك والحس والشعور، وهكذا دواليك أوهام في أوهام، السر في مأساة هؤلاء أن صراخهم أضخم من أصواتهم، وظلهم أطول من قاماتهم، حياتهم قائمة على الارتجال والحبكة الكاذبة، لا معرفية مدروسة عندهم، ولا دليل بائناً لديهم، كل منهم يحاول أن يكون «جيفارا» أو «عنتر» أو «بيكاسو» أو «هتلر»، والدراويش الذين حولهم يهزون لهم الرؤوس، وينتشون لهم طربا! يبيعونهم الوهم، ويصفقون لهم بلا وعي، مثل الذين يرددون للشاعر في المناسبات العامة، أحسنت، أحسنت، وهم لم يفهموا بيتاً واحداً من شعره، لا معناه ولا مقصده، لقد حول هؤلاء المهرجون أنفسهم إلى دجاج من بيضه الثمين يأكلون، وبقميص عثمان يتاجرون، هؤلاء يعيشون شعوذة روحية، جاؤوا بها من بلوراتهم السحرية، ثم صدقوها، وهكذا في كل مشكلة أو قضية طارئة، قدرهم هو الهواء، فلا ظهر ركبوا، ولا ضرع حلبوا، ولا زرع حصدوا، ولا أرض زرعوا، عقولهم دائماً في ثلاجة، أو على الطريقة الجاهلية، إذا جاعوا أكلوا صنم التمر، إذا كذبوا لا يريدون أن يسألوا لماذا كذبوا؟ أو إذا غضبوا لا يريدون أن يسألوا لماذا غضبوا؟ وإذا بالغوا لا يريدون أن يسألوا لماذا بالغوا؟ هرموناتهم النرجسية في زيادة، والدليل كوارثهم الادعائية المزيفة في العنتريات وفي البطولة، تماماً كما كانت نرجسية عمر بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
إذا بلغ الفطام بنا صبي
تخرّ له الجبابر ساجدينا.
لديهم مواهب خطابة، لكن لا يملكون الفعل والإرادة، المتتبع لهؤلاء في المجالس وفي المنتديات والمناسبات، يلحظ أن هؤلاء يحاولون أن يمتطوا صهوة الأحصنة، وإن كانت عرجاء، أو مريضة، بهلوانيون لا يصلحون إلا للتسلية والفكاهة، أصحاب مواقف هزلية، ولا يتورعون عن إنتاج الزيف والبهت والمخادعة، مثل هؤلاء قد تجاوزهم الزمن وعفا، بعد أن أكل عليهم وشرب، ولم يعد يصلحون للخطابة ولا للتنظير ولا للمتابعة، ولم تعد الآذان العاقلة تصغي لهم، العنتريات وسرد الذاتيات لم تعد أسلوب حياة، فالعاقل المدرك الواثق الواعي، يفعل دون أن يتكلّم ويتمنطق، فرزمة العنتريات الفارغة لم تعد تجدي، أو تهم أحد، والادعاءات المزيّفة لبطولة كاذبة صفة الانهزاميين، الذين يحاولون بهرجة نفوسهم بفن القول والخطابة والرطانة، كم هو مر كلام هؤلاء كمر العلقم، باسم البطولة هدموا وتهدموا، وتبحروا في بحر الكلام المنغم، وتفلسفوا وتمنطقوا وتلوّنوا وتعصبوا، حتى غدوا في بحر أحلامهم يتوهمون.