إن انتماء الإنسان لوطنه وارتباطه به، يظهر في أشكال وصور عدة، مقرونة بالعمل المخلص للحفاظ على أمن الوطن ووحدته واستقراره، والدفاع عن الوطن والذود عنه، والمحافظة على مكتسباته ومقدراته، ونبذ أسباب الفرقة والتناحر والبغضاء وهذا ولله الحمد ما عُرف عن أبناء هذا الوطن الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه الأعداء والمتربصين، يدفعهم لذلك حب الانتماء والمواطنة المغروسة في وجدانهم وتجري في دمائهم. ولا أسوأ من أن يكون الإنسان بلا مواطنة حقيقية، وهو ما يتطلب منا الكثير من البذل والعطاء والتضحية، وتحمُّل المسؤولية من جانب كل فئات المجتمع وشرائحه، فعندما يقوم شخص أو قائد مركبة في الشارع العام - مثلاً - برمي النفايات غير مبالٍ بأحد أو العبث في الممتلكات العامة، أو بقطع الإشارة وعدم احترام التعليمات المرورية، وأيضاً عدم احترام الآخرين وإقصاء الآخر أو محاولة اختراق الأنظمة والتعليمات فإنه بهذا يكون قد سلك سلوكاً غير حضاري، وغير مسؤول تجاه وطنه ومجتمعه، وقس على ذلك ممارسات أخرى، لا تدل على الشعور بالمسؤولية والمواطنة.
ولكي نعمِّق مبدأ الانتماء والمواطنة في عقول الأجيال منذ نعومة أظفارهم، فإننا بحاجة لتعليمهم حب العمل والابتكار واحترام النظام والوقت، وتقدير وتقبُّل وجهات النظر المختلفة، كما يجب تنظيم رحلات لطلاب المدارس بدون استثناء، مع التركيز على طلاب التعليم العام، لتعريفهم بكل شبر من بلادهم الغالية، وتنظيم زيارات لهم لكافة منشآت ومنجزات التنمية والتطور في بلادنا من جامعات ومستشفيات ومدن صناعية وشركات تجارية وزراعية، تعمل وتنتج في مجالات متعددة، ليروا ويشاهدوا بأعينهم مظاهر التنمية والتطور، مما يُولّد في نفوسهم منذ الصغر روح التعلق بالوطن، وحبّ العمل المهني والحرفي وغيره لخدمة الوطن. كما ينبغي العمل على تنظيم لقاءات مع كبار المسؤولين، ومع العلماء والدعاة المعروفين بعلمهم الشرعي، لتعليمهم سيرة السلف الصالح، وتدبر المعاني والقيم السامية في القرآن الكريم والسنة النبوية، والإجابة على تساؤلات الشباب، وشحذ هممهم بسيرة صنّاع الحضارة الإسلامية.
لقد تحوّلت دول اليابان والصين إلى أكبر الدول الصناعية، وأصبحت تمتلك اقتصاداً قوياً معتمداً على الإنسان، لا على الموارد الطبيعية من بترول وغاز ومعادن وغيرها، وهذا بفضل عزم وإرادة أبناء تلك الشعوب، وبمؤازرة ودعم كبير من كافة المؤسسات والمستويات السياسية والفكرية والتربوية، والتي حوّلت إنسان تلك الدول إلى قوة متوهجة؛ فتراه يقبل على عمله بكل محبة وتفانٍ، وتضحية وإتقان. إنهم حرصوا على تعليمهم ذلك وهم في السنوات الأولى من أعمارهم وحياتهم الدراسية، من خلال برامج منظمة وهادفة حتى أصبح الكثير من الشركات والمؤسسات اليابانية والصينية، تواجه مشكلة عدم تفضيل العاملين أخذ إجازاتهم السنوية، ورغبتهم بالاستمرار في العمل، والبقاء بقرب الآلات والأجهزة، لأن فيها تكمن سعادتهم. وفي نفس الوقت فإنك تجد ذلك الإنسان يملك ارتباطاً قوياً بوطنه، وضميراً حياً مرهفاً، يمنعه من التقصير والخلل والخطأ، لشدة احترامهم وحبهم للنظام والقانون والعمل وتحمُّل المسؤولية وحرصهم الشديد على اقتناء حاجاتهم في منازلهم ومكاتبهم وسياراتهم وشوارعهم وملابسهم، من مصنوعاتهم ومنتجاتهم. ولقد أثبتت اليابان للعالم، أن الشعوب بانتمائها ومواطنتها وعملها الدؤوب الجاد والمتقن، هي التي تصنع التغيير للأفضل اقتصادياً وصناعياً واجتماعياً.
إن المتدبر للآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والأحداث العملية في حضارتنا الإسلامية، يجد فيها الدعائم الأساسية لطلب العلم والمعرفة ومبادئ إدارة جودة العمل وإتقانه والعدل والمساواة، ومحاربة الفساد والغش، والحث على العمل المتقن، وطلب العلم، وغير ذلك من القيم الإسلامية الراسخة. فالابتكار والعمل الجاد المتقن - الذي نحن أولى به - هو الذي أكسب الدول الصناعية الكبرى هذا التقدم التكنولوجي، وهذه القوة الاقتصادية الهائلة.
إن المهمة الملقاة على عاتق العلماء، ورجالات الدولة والتربية والتعليم، وأصحاب الأموال والشركات والمصانع، والمثقفين والإعلاميين، وأصحاب الرأي والقلم، وأولياء الأمور في بلادنا حساسة وكبيرة، لحماية الشباب من خلال وضع برامج وإستراتيجيات تخدم تطوير واستثمار قدرات الشباب وتوفير كافة برامج الدعم والمشاريع الهادفة للنهوض بشباب هذا الوطن خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد فيها بلادنا تحولات إيجابية إدارياً واقتصادياً وتنموياً وصناعياً والحرص على فتح الأبواب لهم في كافة المجالات والمهن، وجعلهم يلعبون دوراً رئيساً، في صناعة نهضة وعزة ومفخرة الوطن، فهم بحاجة لمن يوجد لهم فرص العمل ويُظهر قدراتهم، ويزيل كافة العوائق والعقبات من أمامهم، للانخراط في أعمال الشركات والمصانع والورش، وتشجيعهم، ورصد المكافآت والحوافز لهم، حتى يحبوا العمل والإنتاج، ويبرعوا باستعمال الآلات الصناعية والحرف والمهن؛ فالشباب المهني والتقني هم صنّاع التنمية، وبناة الوطن وحماته، على أن يرافق ذلك سياسة قوية لترشيد استقدام العمالة الأجنبية، وتكثيف المراقبة الميدانية المفاجئة على الشركات والمؤسسات والمصانع والورش، والعمل على تقييد وتقنين استقدام العمالة ومنح التأشيرات وتجديد الإقامات ورخص العمل.
لا بد من توفر القدوة الحسنة، من انضباط وإتقان وأمانة وخلق رفيع، في العمل والمنزل والشارع والاهتمام بالعلاقات الإنسانية، لأنها تعمل على غرس الولاء، وتكريس الجهد، وتحمُّل المسؤولية. إننا نريد أن نحوّل بلادنا، إلى أشبه ما تكون بخلية نحل؛ تعمل بكل جد ونظام ومثابرة، وبسواعد وعقول أبنائنا لأن ذلك هو المسار الصحيح لإيجاد جيل منتج، يضحي بوقته وراحته، من أجل رفعة وشموخ وطنه. إن بلادنا تعج بملايين العمالة الأجنبية، التي تمزق أوصال مجتمعنا، وتؤثر على قيمه الفاضلة، ونهب خيراته وثرواته بطرق ربما غير نظامية حتى صار الأمر ينذر بالخطر إلى غير ذلك من السلبيات التي لا تخفى على أحد؛ عمالة استنزفت وأرهقت الاقتصاد الوطني من خلال سيطرتها على كافة الأعمال المهنية والصناعية والحرفية والتنمية الحقيقية لا تقوم إلا على هذه الحرف المهنية والصناعية والزراعية، التي تمثّل حجر الأساس في اقتصادنا الوطني وخير دليل على ذلك تلك الأرقام الكبيرة، لإجمالي التحويلات المالية للعمالة الوافدة التي تجاوزت مائة وثلاثين مليار ريال سنوياً.