د. جاسر الحربش
يا لها من صورة معبرة، في المقدمة شاب عراقي يسير مطأطئ الرأس تتبعه امرأتان، ثم عن بعد رجلان، وفي النهاية طابور بشري طويل هارب من البصرة عام 2003م. هكذا كانت بداية المأساة، أفراد يهربون ثم شعوب بكاملها.
خصصت نيويورك تايمز المجلة عدداً كاملاً لبحث الكارثة الماحقة التي حلت بالعالم العربي منذ الغزو الأمريكي للعراق حتى صدور العدد بتاريخ 8 - 11 - 2016م، أحصت المجلة مليوناً ونصف المليون قتيل عراقي وحوالي ثمانية آلاف عسكري أمريكي وحليف وترليونين اثنين من الدولارات خسائر مالية، هذا في العراق فقط. غزو العراق (حسب المجلة) كان أهم أسباب أحداث الربيع العربي الذي تسبب بخسائر مادية وبشرية تفوق القدرة على الإحصاء، علاوة على دمار أوطان متعددة بالكامل وتمزق أنظمتها وأنسجتها الاجتماعية.
تستنتج المجلة أنه إذا كانت هنالك مراحل من التاريخ العربي القديم وصفت بعصور الانحطاط، فإنَّ الانحطاط الذي يشهده اليوم غير مسبوق في تاريخ البشرية، خاصة أنه يحدث في عصر تركز فيه الشعوب على المزيد من التقدم والارتقاء.
قسَّمت المجلة بحثها إلى خمسة أجزاء في عدد واحد، أولها يدرس العوامل التاريخية المهمة والمؤسسة لفهم ما يحدث للعالم العربي اليوم، ثم الهشاشة المستبطنة في الكيانات العربية التي صنعها الاستعمار اعتباطياً بعد الحرب العالمية الأولى على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ثم التضاد بين مطالب التحالف لبعض الدول العربية مع أمريكا مع مطالب الشعوب، انتهاءً بالدور الأمريكي في تجزئة العراق قبل خمس وعشرين سنة بعد حرب تحرير الكويت.
الجزء الثاني من البحث يركز على الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م وكيف هيأت نتائجه لأحداث الربيع العربي.
الجزء الثالث يلاحق تسارع أحداث الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن. ويبحث الجزء الرابع في تنظيم داعش، وأخيراً يبحث الجزء الخامس في الهجرات الجماعية وهروب الملايين العرب من المناطق المنكوبة إلى الغرب، كنتائج ليست نهائية لها ما بعدها.
لم أكمل بعد قراءة البحث عند كتابة هذا المقال، لكنني فوراً هوجمت بالسؤال الملح، لماذا لم يستطع العالم المنكوب نفسه، أو المتبقي منه أن يجمع بضعة أفراد متخصصين في علوم السياسة والاجتماع للبحث الذاتي في نكبتهم بأوطانهم ومجتمعاتهم وأنظمتهم ومستقبل أجيالهم الضائع إلى أجل غير منظور.
هذه الأكاديميات العربية والمؤسسات الإعلامية الموجودة بالمئات، لماذا لم تستطع لملمة بعض أساتذتها وصحافييها وتكليفهم بتقديم دراسات علمية عربية ميدانية عن الطامة الكبرى التي حلت بعالمهم وما زالت مستمرة. لماذا يضطر العرب من غير ذوي التخصص إلى اتخاذ مجلة غربية كمرجع لتقييم مصائبهم، اجتماعياً وعسكرياً وسياسياً ومادياً إلى آخره؟
الجواب يقع في فضاء الحريات التي تقدس المعرفة حتى لو وضعت مجتمعاتها وحكوماتها في قفص الاتهام، للوصول إلى التوثيق التاريخي، مقابل دهاليز التكليف الرسمي تحت إشراف الرقيب.