د. محمد بن يحيى الفال
بما أن الشيء بالشيء يُذكر عندما يتعلق بإستراتيجية التعليم العالي والمهني التقني، فقد استدعى العقل من اللاوعي حلقات سلسة تلفزيونية شهيرة بثت ضمن نشرة الأخبار الرئيسة لقناة إن.بي.سي الأمريكية وقدمها الإعلامي الأمريكي الشهير توم برووكا، وسميت السلسة «بحلب أمريكا»، «Fleecing of America»، وذلك قبل ما يقارب أربع عشرة سنة خلت. وتطرقت السلسلة التي لاقت متابعة كبيرة وأضحى عنوانها ومضمونها محل إعجاب الرأي العام الأمريكي لكونها تطرقت إلى الهدر الذي يصاحب المشاريع الحكومية سواء على مستوى كل ولاية أمريكية أو على المستوى الوطني الفيدرالي. فلو أسقطنا محتوى البرنامج الأمريكي الشهير على محتوى التعليم العالي والمهني والجامعات في المملكة لوجدنا تشابهاً جدير بالتأمل وبالوقوف عليه لمحاولة تفكيكه لمعرفة مكامن الضعف ومن ثم إصلاحه ومعالجته.
وقبل الخوض في إشكالية التعليم وعلاقة ذلك بسوق العمل فالحقيقة التي لا جدال فيها هي أن تجربة المملكة في التعليم هي تجربة رائدة بكل المقاييس وتستحق الإشادة والتقدير والإعجاب، تجربة تشبه المعجزة نقلت مجتمعا كاملا من مجتمع شبه أمي قبل سبعة عقود إلى مجتمع متعلم يقرأ ويكتب في غالبيته.
وتكمن أهم خصائص نجاح التعليم في المملكة والقفز به إلى ما نراه اليوم من تطور ونمو قل نظيره على المستوى الدولي، وبعد توفيق الله إلى الدعم السخي المقدم من ميزانية الدولة لقطاع التعليم وذلك منذ البدايات الأولى لـتوحيد المملكة على يد الملك المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله. وكان رحمه الله وانطلاقا من رؤيته الثاقبة يعرف أهمية التعليم في بناء الأمم والنهوض بها، فأرسل الرسل للبادية والهجر لدعوة أبناء القبائل للالتحاق بالمدارس القريبة منهم وتقديم المكافآت لهم لمساعدتهم في تحصيلهم العلمي. ومع بدايات خطط التنمية وبخطتها الأولية في التسعينات الهجرية السبعينات الميلادية كان التعليم هو الذي يحصل على نصيب الأسد في كافة ميزانيات الدولة ونرى نتيجة ذلك أمام ناظرينا الآن بالآلاف من مدارس التعليم العام بنين وبنات في كل منطقة من مناطق المملكة وبثلاثين جامعة حكومية. فأهمية التعليم للإنسان أمر لا جدال فيه وطبقاً للمعايير الدولية في عصرنا الحديث والتي تطبقها معظم دول العالم فإن إكمال الإنسان لدراسته الثانوية كحد أدنى هو ضرورة لا خيار، بيد أن هناك تساؤلاً ذا وجاهة عن ضرورة إكماله للمرحلة الجامعية هو تساؤل منطقي تفرضه العديد من العوامل لعل أهمها عاملين رئيسيين هما الرغبة وحاجة سوق العمل، وهما عاملان يتداخلان مع بعضهما البعض.
وبداية، فلو أخذنا عامل الرغبة في إكمال التعليم الجامعي لدى العديد من الملتحقين بالجامعات وأخضعناه لدراسات منهجية موثقة لوجدنا أن هناك نسبة كبيرة من الملتحقين بالجامعات قاموا بذلك لأن ذويهم يرغبون في ذلك وليس قناعة شخصية نابعة منهم، كذلك فإن الكثير ممن يلتحقون بالدراسة الجامعية يكون الهدف من ذلك رغبتهم بأن عمل ذلك سيجعلهم مقبولين اجتماعياً. وعليه ونتيجة لذلك نرى زيادة نسبة الملتحقين بالجامعة لكونهم يتلقون تعليمهم مجاناً، لتزداد الحلقة تعقيداً كونهم يضعون في حساباتهم ومنذ البدايات الأولى لالتحاقهم بالجامعة بأن الدولة هي من ستتولى تشغيلهم. ونتيجة لما سبق نرى العلاقة بين هؤلاء الخريجين وضغطهم المتزايد على سوق العمل تزداد سوءاً، فالجامعات والتي هي بدورها تزداد في العدد وتُخرج لنا سنوياً أعداداً هائلة من الخريجين بنسبة كبيرة منهم ممن لم تكن لهم رغبة في الأساس لإكمال التعليم الجامعي. وعلى مدار السنوات لم تولي الدولة الجهد في تشغيل النسبة العظمى من الخريجين وهو أمر أضحى غير منطقي ومستحيل على أي دولة في العالم الوفاء به مهما كانت مواردها.
المشكلة التي تواجهنا اليوم هي في جدلية العلاقة بين التعليم ومخرجاته وبين سوق العمل وهي مشكلة واجهت أغلب دول العالم بما فيها الدول الكبرى وكان الحل لها هو إلغاء مجانية التعليم الجامعي وجعله برسوم وبهذا الإجراء تم القضاء على مشكلتين رئيستين، الأولى بأن من يلتحق بالتعليم الجامعي المدفوع الأجر غالباً ما تكون لديه الرغبة الشخصية غير المدفوعة بعوامل أخرى كالأهل أو المجتمع، والثانية هي بأن الملتحق بالتعليم الجامعي سوف يسعى بكل جهد واجتهاد بأن يصقل مواهبه خلال فترة دراسته الجامعية بإجادة مهنة أو حرفة محببة له لتضيف لخياراته العملية لاحقا سواء كانت قطاعا حكوميا أو خاصا أو عملا تجاريا خاصا به، ولا يجعل مهمة توظيفه أمراً قاصراً على الدولة فقط.
ولا يمكن الحديث عن التعليم في المملكة بدون التطرق للتعليم المهني والتقني والذي يقع هو وكما هو حال التعليم الجامعي في إطار الهدر غير المقنن لموارد الدولة والتي ضخت فيه وبسخاء لا مثيل له مليارات الريالات ورعته لأكثر من خمسة عقود وأنشأت له مؤسسة ترعى شئونه هي المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني والتي تتبعها عشرات الثانويات الصناعية والتجارية وأكثر من 80 كلية مهنية وتقنية وبطلبة وطالبات يفوق عددهم 200 ألف، ومع كل هذا الدعم المادي والعدد من الملتحقين بالكاد أن نرى نتائج عملية مرئية ومفرحة تقابل على الأقل جزءاً من الصرف الهائل الذي يتم على هذا القطاع.
إن ملف مستقبل التعليم المهني والتقني يحتاج لدراسة وإعادة صياغة من ألفه إلى يائه، فلم يعد بالإمكان تركه على ما هو عليه من تخبط وعدم رؤية. وكما الحال في أهمية تقييم التعليم التقني والمهني فإن التعليم الجامعي هو الآخر بحاجة لإعادة تقييمه وإلا فإن مشكلة الهدر في هذين القطاعين ستبقى مستمرة وستزداد سوءاً مع مرور الأيام، خصوصاً مع الأعداد المهولة من الخرجين سنوياً الباحثين عن فرص عمل.
والحل يكمن في تكوين لجنتين لدراسة وضعهما، لجنة للتعليم الجامعي تتكون من منسوبي كافة الجامعات السعودية تجتمع وتبحث في كل السبل لتطوير التعليم الجامعي من خلال واقع تجاربها، وتعمل اللجنة الأخرى في بحث مستقبل التعليم التقني والمهني مع الوضع في عين الاعتبار تغيير إستراتيجيات التعليمين العالي والمهني للتوافق مع أهداف رؤية المملكة 2030، الرؤية الطموحة لمستقبل مشرق والتي يعتبر التعليم وتطويره من أهم ركائزها.