محمد سليمان العنقري
أثار الحديث الذي نُقل بوسائل إعلامية على لسان معالي وزير العمل الدكتور علي الغفيص المعيَّن حديثًا بمنصبه حول ضرورة خفض القبول الجامعي إلى 50 % من خريجي الثانوية العامة حفيظة الرأي العام؛ وذلك بسبب عدم وضوح الفكرة التي تم نقلها إعلاميًّا؛ ما اعتُبر أنه ضربٌ لطموح شباب المستقبل، وأن طرح مثل هذا الحل لن يؤدي لخفض البطالة نظرًا إلى أن ما فُهم أن من لا يُقبل بالجامعة يوجَّه للكليات التقنية والمعاهد الفنية، إلا أن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية سارعت فورًا لإيضاح حديث الوزير، وأنه كان يقصد خفض القبول بالتخصصات النظرية بالجامعات، ورفعه بالتخصصات التقنية التطبيقية والهندسية والصحية، أي أن المطلوب التركيز على التخصصات التي ترتفع بها نسب الانكشاف المهني، أو ما سمي بالمهن الحرجة؛ إذ تنخفض بها نسب المواطنين بشكل كبير جدًّا.
فنسبة الأطباء السعوديين تصل إلى أقل من 30 % حسب إحصاءات رسمية من مجمل الأطباء العاملين بالمملكة. وينطبق الأمر ذاته على تخصصات طب الأسنان والصيدلة والعديد من التخصصات الصحية؛ ما يشير إلى خلل هيكلي كبير بسوق العمل؛ يتطلب علاجًا جذريًّا بخطة محددة وهدف واضح؛ لتقليص الفجوة خلال مدة زمنية لا تزيد على عشرة أعوام. والأمر ذاته ينطبق على التخصصات الهندسية؛ فنسبة مهندسي العمارة والتخطيط بسوق العمل - على سبيل المثال - من المواطنين لا تزيد على 8 %، وهي نسبة متدنية جدًّا. والأمر ذاته ينطبق على تخصص هندسة الكهرباء الذي لا تصل النسبة للمواطنين المتخصصين فيه إلى 13 %؛ ما يوضح جليًّا الخلل بخطط القبول الجامعي؛ وهو ما يعني أن الجامعات منفصلة بخططها للقبول عن واقع سوق العمل واحتياج الاقتصاد بتخصصات معينة مهمة جدًّا لدعم الاستقرار المهني بالاقتصاد.
ومن الواضح أن وزير العمل أطلق جرس الإنذار الذي يجب أن تستمع له الجامعات، وتعيد صياغة دورها التعليمي، والعمل على وضع خطة مختلفة عن السائد حاليًا؛ فسنويًّا يتم تخريج نحو 3000 بتخصص الطب، ومع وجود أكثر من قرابة 100 ألف طبيب، منهم قرابة 75 ألف طبيب وافد، فنحن بحاجة إلى قرابة 25 سنة لتغطية الاحتياج الفعلي إذا استبعدنا تقاعد الأطباء الحاليين بعد هذه السنوات، أو عدم نمو الطلب على الخدمات الصحية، وهذا «أمرٌ مستبعد» تمامًا؛ ما يشير إلى أننا بحاجة إلى تخريج ما لا يقل عن عشرة آلاف طبيب سنويًّا لعشرة أعوام، مع الأخذ في الاعتبار التخصصات أيضًا حتى نبدأ بعدها بتقنين القبول وفقًا للاحتياج المستقبلي، أي العمل الآن هو لسد الفجوة بالدرجة الأولى؛ وهذا يتطلب تغييرًا جذريًّا في القبول السنوي. والأمر نفسه ينطبق على التخصصات الهندسية. ولا ننسى تطوير التعليم الفني والتقني، وربطه بمفاضلة القبول، ورفع النسب من 8 % تقريبًا حاليًا إلى ما يعادل المتوسط العالمي (نحو 30 %)، مع هيكلة المسميات والتخصصات الفنية، ووضع مسارات تعليمية تمكِّن المتفوقين منهم من إكمال البكالوريوس، إضافة إلى وضع سلَّم رواتب مغرٍ لجذبهم، وأيضًا أذرع تمويلية لمن يرغب في عمل مشروع خاص به، أي أن التغيير يجب أن يكون متكاملاً تنظيميًّا وتشريعيًّا لرفع جاذبية التخصصات الهندسية والفنية والصحية، مع ربطها باستثمارات توطّن صناعات وتقنيات؛ لتكون مصدر جذب لهذه التخصصات، كالصناعات الهندسية والطبية ومراكز الأبحاث، وإقامة مصانع لصناعات ثقيلة، التي ستُبنى على أساسها صناعات لوجستية، تخدمها، أو تستفيد من منتجاتها.
فالوصول لسوق عمل يعمل بكفاءة ينطلق من تطوير وتأهيل الكوادر الوطنية، وليس بالاعتماد على خدمات العمالة الوافدة؛ وهذا يعني أن تكامل عمل ومبادرات وزارة العمل يقع في المقام الأول مع مبادرات وزارة التعليم، والجامعات تحديدًا. وسبق أن طرحتُ بمقالات عديدة ضرورة أن يتم تحديد احتياج كل منطقة من خريجي التخصصات الصحية والهندسية والتقنية، وأن تكون معادلة القبول السنوي على أساسها.. فهل يعقل أن تصل الاستثمارات بالجامعات لعشرات المليارات، بخلاف ميزانياتها السنوية، ثم لا تقبل إلا أعدادًا محدودة بكلياتها الصحية والهندسية التي تصل للعشرات بالجامعات الحكومية كافة؟ إذ إن ذلك يعد خللاً كبيرًا بعائد الاستثمار، وخصوصًا أن الجامعات تُعد من أهم الاستثمارات بالدول نظرًا لتعدُّد فوائدها الاقتصادية والاجتماعية عمومًا.
بعيدًا عن اللغط الذي صاحب ما نُقل على لسان الوزير، والتوضيح الرسمي الذي أصدرته الوزارة، وقبل رمي كرة البطالة بملعب الجامعات، فإن وزارة العمل مطالَبة بوضع الحلول الهيكلية المباشرة، وأقلها وقف إصدار التأشيرات للمهن التي ينافس عليها المواطنون، مع تغيير في الأنظمة الجاذبة التي تجذب الشباب والشابات للتخصصات التقنية والفنية والعلمية عمومًا، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة؛ فنطاقات الذي اعتمدت الوزارة عليه لسنوات لم ينجح في خفض البطالة؛ إذ بقيت نسبتها أعلى من 11 % رغم زيادة التوظيف والنمو الاقتصادي الكبير لسنوات، بل ارتفعت مؤخرًا؛ لتصل إلى 12.1 %؛ ما يدل على خلل كبير بسوق العمل؛ يتطلب حلولاً مباشرة وعملية، لها صفة الديمومة.