د. سعد بن عبد العزيز الراشد
أقرت لجنة التراث الثقافي غيرالمادي التابعة لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في اجتماعها في أديس أبابا العاصمة الأثيوبية، مساء الخميس 2 ريبع الأول 1438هـ (1ديسمبر 2016م)، رقصة المزمار السعودية ضمن قائمة اليونسكو التمثيليّة للتراث الثقافي غير المادي للبشريّة. وقد جاءت حيثيات القرار أن رقصة المزمار تعد من الرقصات التقليديّة في منطقة الحجاز في المملكة العربية السعوديّة، وعادة ما تمارس لإحياء المناسبات العائليّة أو الاحتفالات الوطنيّة. وتجري هذه الرقصة بمشاركة نحو100 رجل مصطفين في صفين مقابل بعضهما البعض ويصفقون ويرددون أغاني عن البطولة والحب. ويرقص رجلان بالعصي في وسط ساحة الرقص على إيقاع الطبول لفترة محدّدة ثمّ يفسحون المجال لغيرهما، وهكذا. ويتم تناقل هذه الرقصة في فرق الفنون المسرحيّة ومراكز التراث. وتعدّ هذه الرقصة رمزاً من رموز هويّة المجتمع وجزء من تاريخه المشترك.
وقد تلقى هذا الخبر فرحة غامرة لدى المواطنين في أرجاء المملكة، وبخاصة في موطن هذه اللعبة الرجولية المحببة للنفوس في مكة المكرمة، وفي جدة والمدينة المنورة والطائف، وما والاها من محافظات ومدن ومراكز وقرى وبادية وحاضرة. ويعد هذا القرار اعترافاً من المنظمة العالمية بواحد من التراث الثقافي النادر في المملكة العربية السعودية، وهي خطوة موفقة من وزارة الثقافة والإعلام، والجمعية السعودية للثقافة والفنون وشريحة كبيرة من المجتمع المحلي المحب لهذا الثراث التقليدي الشعبي الذي شغف به أبناء الحجاز خاصة والمملكة على وجه العموم.
وقد سبق أن نجحت المملكة في تسجيل العرضة النجدية السعودية، في لائحة التراث العالمي غير المادي (الشفوي)، لتدخل المملكة هذه اللائحة لأول مرة، وذلك في الاجتماع العاشر للجنة التراث الثقافي غير المادي المنعقد في ناميبيا أواخر عام 2015م.
ويأتي هذا النجاح في إبراز التراث السعودي عالمياً، نتيجة العمل التكاملي بين الهيئات الحكومية، وفي مقدمتها وزارة الثقافة والإعلام، ومنظمات المجتمع المدني ممثلة في الجمعية السعودية للمحافظة على التراث، والتي تواصلت مع المجتمعات والأفراد في التوثيق والتسجيل لهذا العنصر، مع عناصر أخرى للتراث غير المادي، ضمن مشروعها لتوثيق هذا الجانب المهم من التراث وحمايته من الاندثار، وهذا من أهداف الجمعية ورسالتها في التوثيق والمحافظة على الموروث الوطني الغني والمميز.
غير أنّ البعض ممن ينتسبون إلى تراب هذا الوطن، ومن يعتقدون أنهم أكثر أصالة من غيرهم، لم يَحْلُ لهم أن تعترف المنظمة العالمية للتراث الثقافي غير المادي بهذا الإنجاز الذي حققته المملكة، فقد تسابقوا عبر وسائل التواصل المتنوعة موجهين سهامهم للرجل الخلوق الأديب الأريب الدكتور زياد الدريس، المندوب الدائم للمملكة لدي منظمة اليونسكو، والذي يعد من الأفذاذ في عالمنا العربي تحملاً للمسئولية ليس في تمثيل المملكة فحسب بل في تأكيد القيمة الأصيلة للتراث العربي والإسلامي المادي وغير المادي على الساحة العالمية، والتصدي بفكره وقلمه وكلمته لمواجهة الحملات الظالمة على تاريخنا العربي والإسلامي وحضارته. والذين قادوا هذه الحملة على الدكتور زياد باستخدام وسم يقول» الدريس-أحرج-المملكة-باليونسكو»، ليتهم بَيّنوا ما هو ذلك الإحراج، لكنه للأسف حَملَ العصبية النتة والعنصرية المقيتة التي لا يرتضيها عقل أو دين. لقد جزموا أن رقصة المزمار لا تنتمي للحجاز، وأنها أفريقية، ومنهم مَنْ رأى أن أصول الرقصة تعود للوثنيين في أواسط أفريقيا، وأنها تتضمن مخالفات شرعية تفضي إلى شجارات تتساقط على أثرها الدماء، ولا بد من تفعيل تحريمها لما فيها من إساءة لتاريخ الحجاز العربي السعودي الأصيل.
إنني أقدر رباطة جأش الدكتور زياد الدريس في عدم رده على الإساءة والتجريح لشخصه ولأسرته، وذلك من حسن خلقه، تأسياً بقول الشاعر:
يُخاطِبُني السفيه بكل قُبْحٍ
فَأكْرَهُ أن أكونَ له مُجِيباً
يزيد سفاهة وأزيد حلماً
كعودٍ زاده الإحراقُ طِيباً
إنّ من يعتقد أنه حقق مأربه في بذر نار الفتنة والطائفية والمناطقية من خلال اعتراضه على تسجيل رقصة المزمار على قائمة التراث العالمي، نقول له: لقد خاب ظنك، فمكة شرفها الله لا تتسع لأمثالكم، فأهلها أخيار، والحجاز على اتساع رقعته الجغرافية - وعلى مر العصور- غني بتراثه المادي واللّا مادي، ويتنوع ذلك التراث بتنوع طبوغرافية المنطقة، وهو مشاهد وممارس، ومعاش، ورقصة المزمار واحدة من مئات العروض التي يمارسها الرجال شيباً وشباناً منذ القدم.
ولقد اقترن المزمار بالأفراح والمناسبات الشعبية وفي الأعياد، وأداء المزمار فيه من معاني الرجولة، والحشمة والشهامة، ولا يوجد في أداء رقصة المزمار ما يخدش الحياء، أوإسقاطات على كرامة ومكانة الآخرين، أوتحقير لجنس أو عرق. ولعبة المزمار لها جاذبية في الأداء وأعراف وتقاليد، مثلها مثل غيرها من الفنون الأدائية الممارسة في مختلف مناطق المملكة، ومنها السامري والدحة، والدانة، والرزيف، والعزاوي، والطارق، والدِلْع، والكاسر، والينبعاوي وغيرها كثير، وهي اليوم مشاعة ومعروفة، ونشاهدها بإعجاب في الأعياد والمناسبات والفعاليات التي تشهدها كافة مناطق المملكة، ومحافظاتها.
ومنظمة اليونسكو، لم تكن جاهلة بهذا الفن الأدائي لكون رقصة المزمار حاضرة دوماً في الفعاليات الثقافية والمناسبات الرسمية للمملكة في مختلف بلاد العالم، ولم يكن أداؤها قاصراً على من ينتسبون لمكة أو جدة بل يشارك فيها كل شرائح الوطن.
لقد استوقفني وصف المزمار في كتاب «وسمٌ على أديم الزمن»، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر-رحمه الله-الذي وصف هذه الرقصة بعين المؤرخ، وهو الذي عاش مرحلة صباه في مكة المكرمة التي يعرفها مثل ما يعرف مسقط رأسه عنيزة بمنطقة القصيم. يصف الخويطر المزمار بأنه « رقص الراقصين بطرق متقنة، وحركات رتيبة، تلسَلْستْ من الآباء إلى الأبناء. وهناك (المُقاشَع) بالعصيّ وهو المبارزة، وغالباً ما يجرى بين رجال يُرف أنهم يتقنونه، ومعروفون بالجرأة والشجاعة، وخفة الحركة، ويقف (قعطبة) الحارة (الفتوة) في المقدمة، وهو يشبه (الأبضاي) في البلدان الأخرى، وكلمة (مشكل) أيضاً تدل على شجاعة الشخص الموصوف بهذا. ووسط هذا الجمع يدور المزمار حول نار تلعب دوراً في بعض لعبات المزمار، والعصا بلا شك وسيلة من وسائل الهجوم والدفاع، وقد نشاهد المتقن لعملية المقاشع قصيراً، تتخطاه العين، ومع ذلك يهاجم رجلاً ضخماً فيغلبه، وإذا كان الأمر عراكاً جاداً، فقد يسيل دمه، وهذا غالباً يحدث عند الصدام الليلي بين أبناء حيين»(الخويطر، وسم على أديم الزمن، ج5، ص:13-14).
أما تقاليد رقصة المزمار فيلتزم مؤدوها باللبس الحشيم الجميل مكون من الثوب والعمامة الحجازية ذات الألوان المتعددة، والمَصْنف اليماني أو الحلبي، الذي يوضع على الكتف، والحزام (البقشة) العريض على الوسط، أما إيقاعات الآلات الشعبية الحجازية والأهازيج والاشعار فلها حلاوة وطراوة يطول شرحها.
وهناك أوصاف مطولة لرقصة المزمار يجدها القارئ في مؤلفات المكيين من أمثال أحمد السباعي وحسن عبد الحي قزاز وعبد الله محمد أبكر وغيرهم. وإذا كانت هناك ممارسات خاطئة شاب رقصة المزمار-في الماضي- نتيجة للتنافس والفتوة فقد زالت بحمد الله مع اكتمال وحدة الوطن، وبقي هذا الفنّ رمزاً للرجولة والألفة بين طبقات المجتمع في مكة وجدة والمدينة والطائف وفي غيرها من المدن.
إنّ كل ما قيل من ذم لرقصة المزمار، والإدعاء من أن جذورها أفريقية، وفيها مخالفات هي محض افتراء، فحمل العصا من كمال الرجولة، واللبس وأنواعه هو مما عرفته مكة وباقي أنحاء جزيرة العرب عبر العصور. ثم لو سلّمنا جدلاً أن المزمار له جذور أفريقية فهذاً ليس عيباً، فمكة شرفها الله منذ نشأتها قبل الإسلام بقرون، هي عاصمة التجارة، ومجمع التجار من كل بلاد العالم، ولم تكن مكة بمعزل عن تراث الشعوب منذ إيلاف قريش وحتى اليوم. ثم ألم يهاجر الصحابة رضوان الله هرباً بدينهم إلى الحبشة!! ألم يصل التجار المسلمون-عبر القرون- إلى غرب إفريقيا ووسطها وجنوبها، وامتدت هجرات عرب الجزيرة العربية إلى تلك القارة المجهولة عبر القرون، وتأسست فيها ممالك وسلطنات وولايات تدين بالإسلام وترفع راية التوحيد!!! واستمرت العلاقات مع أفريقيا دولاً وشعوباً، نراه معاشاً أمامنا!!! ثم ألم تكن الجزيرة العربية وأفريقيا كتلة متصلة قبل حدوث الصّدع الأخدودي للبحر الأحمر قبل ملايين السنين، ومع ذلك لم يزد هذا العازل المائي بين الجزيرة العربية وإفريقيا إلاّ قوة، فكانت المراسي والموانئ على امتداد ضفتي البحر الأحمر عامرة بالحركة التجارية على مر العصور الإسلامية إلى اليوم، وتتشارك الضفتان في الثقافات البينيّة.
أقول مرة أخرى لمن وجهوا سهامهم للزميل الدكتور زياد الدريس :إن يزوروا مهرجان الجنادرية السنوي ليشهدوا بأنفسهم تلك اللحمة الوطنية بين كافة أبناء الوطن، والفنون العربية السعودية الأصيلة من كل لون، وهاهي جدة التاريخية -التي تم تسجيلها على قائمة التراث العالمي بصفتها بوابة الحرمين - ترحب بأبنائها وضيوفها، على أنغام رقصة المزمار بأصالتها وطرافتها وأهازيجها الجميلة التي ترتفع عالياً وتقول:
على الله يا رجال الله
على باب الكريم جينا
زي ما جينا تودينا
بالسلامة لأهلينا
ودمتم سالمين.. والسلام...