رقية سليمان الهويريني
تتجلى سعادة أهل جازان بالمظهر الحضاري الذي يكسو المنطقة؛ إلا أنهم بالمقابل ذوو اعتزاز عظيم بتراثهم، فزهوهم بالبرج الجامعي الزجاجي الذي يقف بارزاً بشموخ، يوازيه إن لم يتفوق عليه اعتزازهم بالقرية التراثية برغم البون الشاسع بينهما حضارياً!
وما كنت لدينا والابتسامة تشرق في وجوه الشباب، ويفيض الِبشر من جبينهم ونحن في القرية التراثية وكأننا ندلف لماضي جازان العريق! وربما يرى الزائر الغريب تشابه البيت التهامي أو ما يسمى بالعشة الطينية مع المنزل الجازاني، إلا أن الفروقات تظهر بحسب البيئة، وقد لفتت انتباهي تلك الأطباق المعلقة بالسقف، فشرح لي أحد الشباب الهدف من ذلك، وهو أن دخول الهواء للعشة المخروطية يحرك الأواني المعلقة فتهتز وتحدث أصواتاً موسيقية! ودعاني للجلوس على الطراحة الممتدة والقعادة الخشبية وأمام الميفا المنصوب مما يشعر الجالس بالمهابة برغم بساطة الأثاث!
أما البيت الجبلي ذو الطوابق الثلاثة فهو أول ما يصادفك بعد الدخول لتقف أمامه منبهراً، متعجباً من جمال عمرانه ومتانة تصميمه الهندسي المناسب للبيئة الجبلية الجازانية، المتماهي مع الذوق الرفيع لسكانها.
وغير بعيد تشاهد البيت الفرساني وسط البحر وقد تم ربطه بجسر مع القرية التراثية لينقلك بخفة نحو اللؤلؤ وصوت الأصداف! وتبدو هيئة هذا البيت الكبير أنه لعلية القوم، حيث تتوفر به جميع مباهج الحياة آنذاك، وتظهر آثار الثراء في مجلسه الفسيح ونوافذه الشامخة عدا عن المنافع المتعددة. والمدهش أن الدخول له يكون عبر باب صغير للحفاظ على الخصوصية المنزلية، حيث يدخل الضيف وقد ثنى ظهره حتى لا يرى سيدات المنزل أو يفاجئهن دون استعداد أو أخذ الحيطة!
ويعج وسط القرية بحركة تجارية تشم منها عبق الماضي وأريج التاريخ؛ وفي جانب منه مطعم للمأكولات الشعبية حيث أكلت بلذة ونهم، فقد اشترط علي الشباب ألا أتناول طعام الغداء حتى أقبل على العشاء الجيزاني الفاخر، فتناولت الخمير ومغش البامية والسمك واللحم.
وبزوايا السوق يتم عرض الأواني التقليدية والنباتات العطرية والمنتجات الشعبية والتراثية من ملابس وأثاث، وعطورات محلية من لدن سيدات مرحبات وبشوشات، وحين هممت بالشراء لتشجيع إحداهن، رفضت أخذ النقود فصدتني عن الشراء، ولكني تفاجأت بقناني الفل والكادي والبهارات المنزلية بين أمتعتي، ففرت مني ابتسامة خجل، وطفرت دمعة امتنان لتلك المدينة الجميلة التي يتميز أهلها بحب الضيوف والمبالغة بإكرامهم رغماً عنهم.
غادرت القرية باتجاه المطار ووقفت مودعة تلك المدينة التي سلب أهلها قلبي وأخذوا مني وعداً بزيارة عائلية بعيداً عن الرسميات، وأرجو ألا يطول الوفاء بالوعد.
شكراً أهل جازان، فرائحة الفل والكادي تعبق بأرجاء منزلي، ونكهة الحب والوفاء تسكن مشاعري.