د. محمد عبدالله العوين
على الرغم مما يجمع العرب قاطبة من المشترك الديني واللغوي والتاريخي؛ إلا أن مفهوم التقارب والتكامل - لا أقول الوحدة - لم ينضج بما فيه الكفاية إلى الحد الذي يمكن أن نزعم أن الأمة العربية متفقة بإجماع على الأهداف والغايات، ناهضة بتكامل اقتصادياتها، قوية بتضامن جيوشها، عزيزة بتوحّد مواقفها السياسة.
لا يغيب عن ذاكرتنا التاريخية كل المحاولات الراشدة والمتهورة، العاقلة والمجنونة لتطبيق مفهوم «الوحدة» بين قطر وقطر، أو بين نظام ونظام؛ كما هي قصة الوحدة القصيرة النفس بين مصر وسوريا من 1958- 1961م في عهد جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، ولم تعمر أكثر من ثلاث سنوات؛ على الرغم من ضجيج الخطاب القومي الذي أعلنه عبد الناصر شعاراً جماهيرياً ألهب به عاطفة قطاع غير قليل من الجماهير العربية، وباندفاع شديد خلف إيحاء المفهوم القومي العاطفي الفج امتدت طموحاته إلى تثوير المنطقة العربية وقلب كياناتها السياسية؛ فاتجه إلى اليمن وكانت الفشل الذريع الثاني للمد القومي الناصري، وقد سرت عدوى الوحدة إلى الشاب الثائر على سنوسي ليبيا والمتأثر بالخطاب الناصري معمر القذافي فسعى إلى التوحّد مع أية دولة مجاورة، وحين رأى أن مبادراته لم تلق أذناً صاغية ولى وجهه نحو القارة الإفريقية، وتلقّب بـ: «ملك ملوك إفريقيا» نكاية بالعرب الذين لم يستمعوا إلى صيحاته بطلب الوحدة!
وفي مرحلة مرة ومقتطعة من مراحل التاريخ العربي الحديث برزت المطامع الشخصية وغلواء الزعامة الذاتية تحت مسمى الوحدة المزعومة؛ كما فعل صدام حسين في تكوين «مجلس التعاون العربي» وكانت أزمة الخليج الثانية التي أحدثها غزو صدام للكويت 1990م القشة التي قصمت عرى مجلس العنكبوت المتهاوي.
وكشفت حرائق ما سُمي بالربيع العربي الماحق كم هي - مع بالغ الأسف - الآمال المعقودة على مفهوم «التضامن العربي» - لا الوحدة العربية - ضعيفة ومخيبة الآمال؛ فقد ارتمت سوريا والعراق في الحضن الفارسي، وتم تنفيذ مؤامرة اختطاف دولة عربية ثالثة؛ هي اليمن لتستلبها جماعة «الحوثي» المنشأة والمغذاة والموجهة باليد الفارسية أيضاً.
ولم يكن لـ«جامعة الدول العربية» تأثير يذكر في رتق هذه الخروق المتسعة في الثوب العربي المتهلهل بفعل الأحداث المتسارعة بعد أزمة الخليج الثانية وما أعقبها من تغوّل فارسي في المنطقة العربية حتى أعلن أحد المسؤولين الصفويين أن إيران تحتل أربع عواصم عربية.
وأمام هذا السياق التاريخي المؤلم لمسيرة التضامن العربي المأمول الذي تنشده الأمة والأخطار المحدقة بالمنطقة لم يكن بد من أن يسعى ملوك وأمراء الدول العربية المطلة على الخليج إلى تكوين هيأة أو منظمة أو مجلس يجمع كلمتهم ويوحّد مواقفهم ويحدد أهدافهم؛ وخصوصاً أن هذه الدول الخمس: السعودية والكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان هي الأكثر تشابهاً في العادات والتقاليد والمفهومات الاجتماعية، والأقرب إلى بعضها ثقافياً وتاريخياً وجغرافياً وقبلياً، وقد دفع قيام ثورة الخميني المشؤومة 1979م وما حملته من خطابات نشر الفوضى وتصدير العنف وتهييج المشاعر الطائفية إلى ضرورة بلورة فكرة التلاقي والانسجام والاتفاق بين قادته وشعوبه في صورة الهيأة التي خرج بها مجلس التعاون الخليجي بتاريخ 21 رجب 1401هـ الموافق 25 مايو 1981م.
وقد أثبت مجلس التعاون الذي يتطور سريعاً في تكامله وإنجازاته على طريق إنضاج مفهوم الاتحاد بين دوله في مجالات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية كثيرة أنه قادر على التصدي لمحاولات العدوان على أية دولة من دوله؛ كما حدث إبان غزو الكويت وما سجله «درع الجزيرة» من بطولات، والمبادرة السريعة التي اتخذتها المملكة بدخول الجيش السعودي إلى البحرين بعد اشتعال الخريف العربي 2011م واستغلال إيران لذلك، ثم الموقف الخليجي الموحّد من اختطاف اليمن على يد مليشيا الحوثي.
ويظل مجلس التعاون التجربة الوحدوية الأولى الناجحة المتميزة في التاريخ العربي الحديث.