د. خيرية السقاف
على حين غرة، تغيرت الحياة على الأرض، وتسارعت دواليبها، وتداخلت مواقيتها، وغدت مداداً متدفقاً في محابر الكتاب، وبوتقة تمد بوقودها أفكارهم..
ولعلي هنا أتأمل الحكمة، فأراها تتململ مقصية، منسية بين السواد الأعظم من البشر على الأرض موئلهم..
حالها توشك أن تفر من معقلها، وتطير للبعيد، تذهب لمدى تحلق فيه بين كائنات قادرة على استقبالها، وإنزالها في دارها مشرعة النوافذ لتشع لها، فتبصر..
وإنها والله الحكمة.. الحكمة لا غير!!..
فالحكمة كالروح ما خُنقت في جسد إلا خرجت منه!..
وهي كالماء ما نزلت على يباب إلا أروته، ولا يابس إلا رطبته، ولا صادي إلا سقته!..
الحكمة كخوف الأمهات ينقذ من مهلكة، ويوقظ عند منفعة، يُطعم من جوع، ويخرج من حيرة!..
الحكمة كمعرفة الخبير بوصلة اتجاه عند الضلالة، وخلاصة علم في محك المواقف!..
الحكمة حين لا تصد أبوابها لا تنام، وتنتظر، بل تقرع بكلتا يديها!..
لا تقر التمييع، ولا التسريع، ولا الترقيع!..
الحكمة كالميزان، لا تذهب بالهش فترجحه، ولا تجازف مجاملة!..
هي عصا توكز من يتعامى، وهي عصا تدل من يبصر، وهي عصا تلذع من يتجاهل!..
الحكمة بين الناس الآن، توشك أن تنصب محكمتها، وتدق بقوة مطرقة تنبيهها،
وتعقد محاكمتها الكبرى، ومن ثم تفض عن قرارها!..
أتأملها فأتساءل:
ما الذي يدركه الإنسان فيتعلمه، فيوظفه، يتقيه، أو يستقطبه، يذروه، أو يثريه، يبدله، أو يزيد عليه، أو، أو من أحداث الأيام، ووقائع الليالي ومعطياتها المتواترة، المتكاثرة، المتداخلة، المختلطة، كثيرها قشرٌ، وقليلها لبٌ، تمايز بينهما الحكمة بفصل الخطاب ؟!..
ما الذي يكتسبه في أيامه، ولياليه من ذهابه، وإيابه من، وإلى المدرسة، ومن، وإلى الكلية، ومن، وإلى المنتدى، والنادي، والملتقيات، والمؤتمرات، والجمعيات، والاجتماعات، ومنصات التواصل، وأجهزة الاتصالات، ومن الإعلام، والمثقفين، والتربويين، والثرثارين، بل الساكتين، والصامتين،.. بل من المطاعم، والأسواق، والسفر، والصحب، وهدير المطبوع..
ومن كل الذي يقرأ، ويسمع، ويشاهد، ويلمس، ويتذوق، ويقلد، ويرفض، ويقبل، تهديه لفروقاتها الحكمة بشواهدها، وأمثلتها المقتداة؟!..
لكنه يتجاهلها، هذا الإنسان يتجاهل الحكمة من كل ذلك وفيه!!..
فكيف يفعل هذا الإنسان ويتجاهلها؟!..
مع أنها تحضر بقوة بين ثنايا، وطيات، وجزيئات كل شيء حتى الأنفاس التي يشهقها، ويزفرها، وحتى اللقمة يستطعمها، والوجه يلتقيه، والسطور يقرأها، والمال يقتنيه..؟
كيف لم يفطن لها..؟
كيف نسي الحكمة، وأقصاها..؟
كيف لم يستحضر ماءها، ومقياسها، ويشرع ميزانها، ويحسب لعصاتها، ويوقر خوفها، ولا يغفل عن محكمتها..؟
في غوغاء البشر على الأرض، وأنا أتأمل الحكمة في مقرها بين غالبيتهم أجدها
تتململ، توشك أن تطلق ساريتها، وأجنحتها، وترحل !!..
لكن ثمة فراغات ستتركها حيث منزلها من الإنسان..!