د. صالح بن سعد اللحيدان
في الدراسات العلمية المعاصرة والتحقيق الاستقصائي الذي قمت به يتعلق الصبر بصفة من صفات العقل السياسي الواعي المكين؛ ذلك أن قوة الملاحظة وحسن التصرف يأتي بعدهما حسن التصور. هذا جزمًا هو عين التأني الذي يبثه العقل الفطن إلى الأعضاء لا شعوريًّا بعدم نقاش شيء ما، أو نقد أو رد حتى تتبين الصورة بل حتى تتبين الصور كافة، تلك الذي يحسن نظرها بعين فاحصة شفافة مجربة من خلال الموهبة السياسية المسؤولة، ثم وضع الحال أو إن شئت قل الأمر موضع الاستشارة، ثم التروي بعد ذلك ومراجعة الوضع مرارًا، وبذل الحكم إنما يأتي بعد حين مع جعل الباب مفتوحًا؛ وذلك لإمكان العودة إلى ما قد يكون قد خفي أنه صواب فوضعناه موضع الخطأ.
والعقل السياسي في منظومة الدولة، وكذلك العلمي مع العقل الاستقرائي، إنما كلها تصدر عن عقل واحد، ولكن تعددت حالاته بحكم التصور المكيث قوي التجربة شديد التأمل الذي قد تم ولاؤه.
لا يمكن حسب تجارب العصور الخالية، تلك التي قامت وقام بعدها ما قام من دول وحضارات، لا يمكن أن يكون الضعف سببًا موجبًا لحال ما من حالات التدهور، بل لعل من الأسباب في كثير من الدول هو سوء التصرف أو العجلة، أو دفع كل ما في الجعبة من قوة وأسرار تجاه من يراد صده أو رده؛ فهذا - دون شك - يكشف الأوراق أمام من يراد ألا يعتدي.
لأن تبيُّن الصورة لديه قد وضح فيضرب من حيث لا نقدر أنه يضرب في مكان نقطع أنه لا يمكن أن يضرب فيه.
وهذا سبب جيد يبيّن حالة واحدة من حالات كثيرة، يحسن أن تولى بالغ الاهتمام حيال من يراد أن يتوقف عن الخطأ، ولو عن طريق التعريض في الدول المناوئة فهمًا منها أنه لا يُعرف أمرها.
ولهذا جعل أبو جعفر المنصور - واسمه عبدالله - من الناحية الأمنية الداخلية جعل كل من يشك فيها على لائحة عقله لا لائحة قلبه حتى تبين له بعد دهر أن تسعة أعشار من شك فيهم ليسوا إلا حالة لا شعورية، دفعه إليها بالغ الحذر الزائد؛ فكان أن قرب الكثير وولاهم.
ومن الناحية الاستراتيجية تلتقي السياسة مع الأمن في سياق واحد، كلاهما يغذي الآخر.
أقول: ولهذا اعتبر المحققون ونقاد التاريخ والتراجم أن أبا جعفر هذا هو المؤسس الثاني للدولة العباسية، وحينما أبسط الحكاية كلها نجد أنه أبعد بدهاء وقوة كل من أراد السوء أو الإثارة أو العبث؛ فهابه الصديق قبل العدو، وكانوا من القلة بمكان، يخالف ما كان يظنه أنهم كثرة، حصلت بسبب وشاية أو كره طبعي أو حسد بين قريب وقريب، أو صاحب وصاحب، يجمعهم العمل الواحد.
وفعل ذلك هارون الرشيد، ويمكن هنا من حيث إرادة سعة النظر مطالعة بحاذق من النظر كتاب (تاريخ دمشق) لابن عساكر.
لست هنا أعالج وضعًا واحدًا كالإدارة مثلاً، أو الاقتصاد، إنما جل اهتمامي - ولا جرم - ينصب على أصل ما يجب نظره مما يمكن معالجته في ظهر وفي فقار أي دولة، وفي الإدارة مثلا إنما هي نتاج. أقول إنما هي نتاج إذ التطرق إلى أصل الكيان هو بالغ ما أرمي إليه في أطروحاتي كافة، وغاية ما أقصده.
ولهذا يمكن معالجة (جرثومة المعدة) بشيء من الحرص المتين، وندع شوكة في يد أو رجل إلى حين.
لأن الاهتمام بالأهم المؤدي إلى تدهور البدن كافة أولى من الالتفات إلى ما يمكن إبعاده بظفر أو إبرة على حال سريع.
وهذا إنما هو مثال أضربه لضرورة النظر في حال دون حال، وأمر دون أمر، وواقعة دون أخرى.. وتفصيل مثل هذا بواسع من القول والتحقيق والأمثلة ليس هذا موضعه في هذا المعجم، ولكن الحصيف من المعنيين يدرك ما أرمي إليه وما دعاني إليه من الحرص على بذل الرأي المكين؛ وذلك لسيادة الأمن والسياسة في آن وكل آن.
وعودًا على بدء، أبيّن مفردات تخص المعجم التي أحتاج إليها ويحتاج إليها غيري ثلة كثيرة من العلماء والمحققين:
أولاً/ أصل الصبر أنه ثلاثي (ص ب ر).
ثانيًا/ صبر يراد بذلك تحمل على صفة العموم؛ ولهذا يكون هناك فرق بين الصبر والتصبر؛ فالصبر قد يكون ضرورة؛ إذ لا حل إلا به في بعض المواقف.
أما التصبر فهو الذهاب إلى التحمُّل مع إمكان عدم ذلك.
ولهذا كان التصبر من صفات العقل، لا من صفات القلب أو صفات العاطفة.
وإذا كان الحلم بالتحلم فالصبر كذلك عند الواجب إذا واجهك أحمق أو معاند أو قريب حاسد أو صاحب مثله كذلك، أو من لا يقدرك حق قدرك.. وهذا من سياسة الفطنة والدهاء.
ثالثًا/ والصبر بتشديد الصاد قوة التحمل على ما لا يقدر عليه (بضم الياء).
رابعًا/ وصبر ويصبر وتصبر أي تحمل ما حصل إلا إذا كان الصبر عجزًا مع عدم القدرة على الدفع فهذا يدخل في باب العجموات.
خامسًا/ الصبر أصل من أصول الحياة، ولاسيما أنه يمكن أن يتلبس بالدهاء وسعة الحيلة والانتظار.
سادسًا/ والصبر والصبر بضم الباء في الثانية إنما يراد هنا تحمل شدة المرارة لعلاج ما يشتكي منه الإنسان؛ إذ الصبر بكسر الباء علاج جيد لبعض الأورام، وفيه نفع - بإذن الله - لكونه يطرد الرياح المستقرة في البدن، وهي بخلاف الغازات، فلعل هذا أخذ منه ذاك. وجاء عند الأقدمين (لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا) بضم الباء.