ياسر حجازي
1
وقفت في أكثر من موقف أتأمّل العلاقة اليساريّة أو غيرها من الاتجاهات بين العداء لأمريكا والوقوف إلى جانب الاستبداد والشموليّة، وكنت أصل في مرات كثيرة إلى أنّ العداء بحدّ ذاته يحتاج إلى إعادة ضبط، ومراجعة، وليس من باب الشكّ في مشروعيّة هذا العداء فحسب، وهو مشروع في مواقف ومحطات كثيرة من تاريخ أمريكا المعاصر وعلاقاتها بدول العالم غير الأوروبي، إنّما أيضاً من أبواب أخرى تخصّ مفهوم العداء نفسه وتحليله وقيمته في السلم والحرب وقيمته في التفاوض والتحالف، في التعايش والتقارب.
2
وعدتُ مؤخّراً لأقف عند هذه العلاقة بين العداء لأمريكا ومناصرة الاستبداد، بعد وفاة زعيم كوبا فيديل كاسترو، وعند سرديّة مدائحيّة قديمة نسبيّاً للروائي الراحل غابرييل ماركيز بعنوان: (فيديل كاسترو الذي أعرفه)، ترجمها عبدالقادر عقيل ونُشرت في جريدة الحياة 27 نوفمبر 2016؛ والسرديّة منشورة في أماكن عدّة، أقدمها وفق البحث السريع في غوغل (يعود لسنة 2006 في الغارديان) وقد تكون نشرت قبل هذا التاريخ في صحيفة أخرى.
في هذه المدائحيّة حلّق ماركيز الروائي بأجنحة خياله وبقلب المحبّ المتيّم في هوى المحبوب المخلّص (النفسي قبل الواقعي)، وراح يضع (كاسترو) فوق الإنسان بعقله وجنونه وأوهامه وعلومه وإيجابياته وسلبياته، وتعامل معها جميعاً، في خلطة سحريّة من خلطاته، في مديح القائد الثائر والإنساني والمستبدّ، والذي يتحمّل أخطاء الثورة الكوبيّة على مستوى الإنسان الكوبي ومعيشته، على الرغم من الحظر اللا-إنساني الذي عانته وتعانيه كوبا.
أطال المديح حتى لم يعد لليوم والليلة حسابات في خيال ماركيز وحبره، وراح يعدّد المهمّات التي يقوم بها (كاسترو) صباحاً، والتي تحتاج إلى صباحات ومساءات، ولا تنقضي بيومٍ يتيم يوزّع عليه (ماركيز) عشرات الأجساد والعقول لتمارس كلّ تلك المهام في يوم واحد وفي جسد واحد كما عرفه ماركيز وأراد أن يعرّفنا به، ويكون في أماكن عدّة لا يتّسع لها النهار والليلة، وحاله كحال مريد الصوفيّ يشطح في حبّ شيخه، فيدّعي أنّه رآه يحلٌّ ويصلّي بين السماء والأرض، ويختم في ليلة مئة ألف ركعة. أيّن هذا المريد وماركيز من هذه السحريّات غير خطفٍ من الحبّ والفتنة بالمحبوب حدّ الغشيان ورؤية من خلال الغبش، وحدّ الخرافة والإيمان بغرائبها.
3
أليست مدائح المبدعين وكتاباتهم وكذلك مراثيهم للقادة الشموليّين والمستبدّين محلّ استغراب، ومدعاة للتساؤل؟ ما الذي يربط بين هؤلاء وهؤلاء؟ هل يكفي العداء الأمريكي ليكون رابطاً إلى هذه الدرجة من الانتشار بين أدباء وأكاديمين ومبدعين؟ كيف لهؤلاء الذين يدعون للحريّة والحبّ والانتماء ونبذ العنف أن يمجّدوا الشموليّة إلى هذه الدرجة التي تمحو الفرديّة محواً يجعلها في يُتمٍ وتحت الوصاية ودون سن الرشد الذي يخوّلها أن تفكّر وتعمل وتبني دون شموليّة؟ ألا يبدو بهذا المديح الشعب قاصراً، ومسلوباً عن كلّ الصفات والقدرات والطباع والمهارات (والبركات) التي منحوها وختموها للقادة من دون شعوبهم.
4
أعجبتُ بسيرة فيديل كاسترو، وهكذا سيرة وغيرها من القيادات التاريخيّة التي قادت شعباً للتحرّر (وعجزت عن منحها الحريّة) تدخل فيها سيرٌ عديدةٌ لمشهورين ومغمورين وأعداد كبيرة من الشعب لم تكن حكاية استقلال كوبا وصمودها في الحياة وعلى رمق الحياة بوجه العداء الأمريكيّ لتنجح دونهم، ولكن في المقابل، إن رؤية الصورة كلّها بالتركيز فقط على ملامح (فيديل كاسترو) هو محوٌ للشعب الكوبي، لأنّك لا تستطيع أن تراه في مفردة متعلّقة بالعداء الأمريكي، إنما ضمن صور متراكمة لملامح كوبا كلّها وشعبها منذ الاستقلال وحتّى اليوم.
5
أعود إلى رؤيتنا للعداء، وعلى جبهات عديدة؟ إلى أيّ مدى كنّا على حقٍّ في هذه القوالب التي أسرنا بها أنفسنا ورؤيتنا للصديق العدو/للآخر الذي نتنفّسه/ الحليف البغيض؟ ماذا تقول الوقائع على الأرض؟ إلى أين أخذتنا طريقتنا في مفهوم العداء وإدارته؟ أو في التعامل مع تبعاته، وما ينتج عنه من مواقف وتأثيرات على واقعنا وعيشنا اليومي، وفقاً لطريقة رؤيتنا أو التيه والضبابية في العلاقات العربيّة الأمريكية.