د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لستُ أزعم في هذا المقال أني آتي بجديد، فكثيرون تحدثوا قبلي عن أهمية البحث الجيد الذي لا يمكن أن ينتج إلا عن باحثٍ جاد، وعن الصفات التي يجب أن تتوفَّر في الباحث، حتى يمكن أن نتوقَّع منه مُنجَزاً بحثياً يستحقُّ ما بذل فيه من جهدٍ ووقت، مُنجَزاً يفتخر بطباعته ونشره، ويتشرَّف باسمه على غلافه، مُنجَزاً يشهد له التاريخ بجودته، ويشكر له القراء أن جاد عليهم به.
ولأننا في عصرٍ كثرتْ فيه البحوث الرديئة، لتساهل الباحثين في إنجازها، والفاحصين في الحكم عليها وإجازتها، حتى أضحى الباحث الجاد أندر من الكبريت الأحمر، كان لا بُد من محاولة استرجاع هذا النوع من الباحثين، باستحضار شيءٍ من صفاته ومميزاته، لعل الهمم تنهض، والطموح يرقى، والغيرة تشتعل، سعياً إلى الاتصاف بهذه الصفات.
ينبغي على الباحث الجاد أن يكون راغباً في موضوعه محباً له، إذ لا يُتوقَّع منه أن يبدع وأن يُقدِّم جديداً وهو مُرغمٌ على الموضوع كارهٌ له، ثم يجب عليه أن يكون ذا علمٍ ومعرفةٍ وكثرة اطلاعٍ وقراءةٍ واسعة، ومعلومٌ أنَّ مثل هذه الصفة لا يمكن اكتسابها بين يومٍ وليلة، بل تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وجهدٍ كبير، وأن يشرع الباحث في بنائها في نفسه وشخصيته منذ وقتٍ مبكر، وإلا فلن يُصلِح العَطَّار ما أفسده الدهر.
من صفاته أيضا قدرته على الإبداع في البحث فطرةً واكتسابا، بأن يتمكن من فهم الحقائق وتفسيرها باستقلالية، وأن يكون قادراً على التمحيص والتدقيق وإصدار الأحكام من خلال موهبةٍ مفطورٍ عليها، أو من خلال اكتساب هذه الخبرات البحثية عن طريق الدراسة والتجربة ومحاولة الإلمام بفنون البحث العلمي ومهاراته.
الباحث الجاد يُفترض أيضاً أن يكون دقيقاً مُنظَّماً في عمله، إذ هو في الحقيقة يشبه المهندس في بنائه، يضع كلَّ جزئيةٍ في موضعها المناسب، مُلتزماً بالوقت في كلِّ مرحلةٍ من مراحل إنجازه، ويراجع ويدقق ويتأكد من كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في مشروعه الذي نذر نفسه لإنهائه.
على الباحث الذي يتمنى جودة بحثه أن يتحلَّى بالصبر والدأب والتحمُّل والجَلَد والمثابرة، ومن يعي طبيعة عمله سيدرك حجم المشاق والصعوبات التي يواجهها: ذهنياً وجسدياً وماليا، وأظنُّ أنَّ كثيراً من البحوث المهترئة التي بدأتْ مكتباتنا الجامعية تزدحم بها، يقف خلفها باحثون -أو هكذا ظنوا أنفسهم- فقدوا هذه الصفة، وبات الإنجاز السريع المعتمد على النسخ واللصق في معظمه هدفاً أساساً لأمثال هؤلاء.
ولأنَّ البحث العلمي الجاد يسعى إلى تأسيس أحكامٍ صحيحة، والوصول إلى نتائج جازمة، فضلاً عن كثرة العقبات والمشكلات المتوقعة فيه، فلا بُدَّ حينها من التأني في إعداده، والتمهل في بنائه وصياغة عباراته؛ لأنه لا يمكن التغلب على هذه الصعوبات وتحقيق النتائج المرجوة إلا بالتأني والتأكد وعدم التسرع.
ثم يُفترض بالباحث أن يكون مخلصاً لبحثه، متفانياً في تحقيقه للشمول والجودة، فلا يبخل عليه بأيِّ نوعٍ من أنواع الجهود، أمَّا الأمانة العلمية فهي أهم شروط الباحث على الإطلاق، وهي ليستْ مقصورةً على نسبة الأقوال إلى أصحابها، بل حتى في صِحَّة النقل ودِقَّته، وفي أسماء المؤلفين وعناوين كتبهم، وفي استيفاء المادة العلمية، ومن دون هذا سيفقد الباحث ثقة القراء، فضلاً عن عدم تحقيق المقصود وضياع الجهود.
أختم هذا الجزء بصفةٍ في غاية الأهمية أنوي تخصيص مقالٍ كاملٍ لمعالجتها، لكونها صارت كالنار في الهشيم بين الباحثين، وهي الشكُّ فيما يقع عليه من مادةٍ علميةٍ حتى يتحقَّق منه بالدراسة والفحص والتمحيص؛ لأنَّ الباحث الذكي الجاد ينبغي ألا يُسلِّم بكلِّ ما قاله الأولون، وهو أمرٌ راجعٌ إلى قوة شخصيته واستقلاليته الفكرية، وعدم انقياده وتبعيته لآراء الآخرين أياً كان مستوى علمهم.