إننا نعيش مرحلة الاستهلاك التي نعتها زيجمونت باومان بالحداثة السائلة ؛ فأضحت المعرفة أيضًا في حالة سيولة و تدفقت عبر العديد من مواقع العالم الرقمي ؛ وهذا التدفق الهائل يعني لنا جانبًا سلبيًا في الأثر المعرفي ؛إذ إنه يحثنا على الاستهلاك السريع للمعرفة ؛ وهذه السرعة ستجعل الإنسان في حالة ازدياد للإبداع المعرفي باعتبار استهلاك معارفه منذ بزوغها بسبب هذا العالم الرقمي التقني سريع الانتشار ؛ إلا أن الإشكال فيه أن امتداده سيكون على شكلٍ أفقي و ليس رأسي؛بمعنى أنه سيهتم بالكم على حساب الكيف ؛ وسيلجأ إلى الكثرة مقابل العمق و النوع ؛ وهذا هو التحدي الذي تواجهه المعرفة في العالم الرقمي .
وإذ إن الأدب هو أحد نتاجات الإنسان فإنه حتمًا سيتأثر بما ينتجه هذا الإنسان ؛ فالإنسان الذي أنتج العالم الرقمي هو ذاته الذي ينتج الأدب ؛ و لسمة الاختزال و السرعة التي عرضتُ لها سابقًا فإننا نلحظه بشكل تطبيقي على أدب السرد الذي تأثر بالعالم الرقمي و بمواقع التواصل بشكل أدق حينما ابتدعوا (القصة القصيرة جدًا) ؛ وهذا النوع الذي بزغ عن جنس السرد يحيلنا إلى الأثر بين العالم الرقمي والأدب ؛ ولكنه أيضًا سيتلبس بالصفة التي ذكرتها آنفًا ؛ وهي الاهتمام بالكم والكثرة على حساب العمق ؛ و هو ما نجده في (القصة القصيرة جدًا) التي لا تحمل عمقًا في طرحها إذ إنها لا تكاد تتجاوز الحدث الواحد في السرد مما يختزل تقنيات السرد المعهودة ، و هذا الاختزال الكبير للسرد في حدث أحادي و شخصية أحادية أو ثنائية ينافي همّ السرد الأكبر الذي يتعاطى مع قضايا البشرية ، فالسرد هو الإنسان ذاته حينما يحلم و يتكلم و يمارس أبجديته في الحياة ؛ و (السرد المُختزَل) هنا سيسطو على ذات الإنسان الساردة و يأخذ منه أحداثه و شخصياته و يحوله إلى حدث أحادي و شخصية أحادية .
و لهذا فإن (القصة القصيرة جدًا) لا يمكن لها أن تؤدي ما يريده السرد من تفلسف ؛ فالسرد يمكن له أن يُفلسف الإنسان أكثر من الشعر ؛ فإذا اختزلته (القصة القصيرة جدًا) فإنها ستسلب منه هذه الميّزة التي فاق بها الكثير من الأجناس و الأنواع الأخرى من الأدب.
- صالح بن سالم
_ssaleh_ @