«قلت له:
إن الشاعر لا يبكي
قبضت روح صديقي بعد ليالٍ
وأنا مذ ذلكم الحين أفتش عنه
لتقول له قسمات الوجه الثكلى يا...
إن الشاعر لا يمكن إلا أن يبكي».
قرر الشاعر أن يبكي بعد رحيل صديقه؛ أخفى د.سعود اليوسف بكاءه؛ ليتفجر أنيقًا في قصيدته «صحوة الرماد» وكأنه يتمثل قول الشاعر:
«أنيق الحزن موزون بكائي
وما غير القصائد في كفوفي».
هذا الزمن الذي يسبق قوله: «إن الشاعر لا يمكن إلا أن يبكي»، والذي ابتدأ به قصيدته «صحوة الرماد»، هذا التمهيد قبل ياء المتكلم:
«غادروه.. وما يزال ينادي
والأمانيُ، تاه عنها الحادي
كاسدٌ صوته.. بضاعة دُكّا
نِ الضحى عند العُمْيِ ذات كساد»،
هذا الزمن هل هو بمثابة ستار المسرح يُغلق ليفُتَح على زمن، وحدث جديدين؟ أم هو جزء من شخصية الشاعر: يبتدئ بالآخر؛ حتى يستطيع أن يتحدث مع الآخر؟ حتى وإن كانت ضمائر الغائب والمتكلم تعود عليه؟ أم أنه لا يريد لذاته أن تتصدر القصيدة: خجلًا؟ خشية من أن يتفرس أحدهم في تقاسيمه ما يخفيه؟ وهذه هي الشخصية المسكونة بالنقد، بالتأمل، بالتدقيق، تحسب ألف حساب للآخر.
يمتزج الآخر بذات الشاعر في قصائده، ويشكل محور اهتمامه، بل إنه يعد مع عوامل أخرى سببًا لاستقراره الذاتي أو العكس؛ فجراحه ليست عميقةً لولا ما يلمحه في وجوه الناس ونظراتهم، يتأمل التفاصيل بكل جوارحه، يشعر بها ينسجها في رسالة طلب إلى المتلقي:
«لم يكن لي من الجراح سوى ما
كان وهمًا أكّدتُه بالتمادي
ربما يشعر المريض بأقسى
دائه من تأثُّرِ العُوَّادِ».
غير أنه لم تُفْهم رسالته؛ فبقي وحيدًا:
«مستباحٌ فلا الصدى ارتدّ نحوي
وشفاهي لم تدّخر إنشادي
...
مر بي العيد ما هششت إليه
فاكتسى ملامحًا للحدادِ!».
ولما كان الشاعر يجيد العزف على أوتار الذات؛ كنتُ أتلقف حديثه المطرز بياء المتكلم بالبحث عنا وعنه من خلاله:
«بجراحي ضَمّدتُ بعضَ جراحي
كيف أُشفى والجرح بعضُ ضمادي؟!»،
فما هو البعض الآخر من الضماد أيها الشاعر؟ أهو الآخر أيضًا؟ أم الأمل؟ ولماذا لم يفصح عنه؟ هل لأنه عزيز الذات؛ فأراد أن يختبر مكانته عند الآخر من خلال رسالته المضمرة؟ أم هل لأنه الأمل الشيء الوحيد الذي بقي له ويتشبث به؛ فيخشى عليه؟.
خُلِق الشاعر من رحم المجد؛ يُحمّل ذاته سبب حزنه؛ ليترك للآخر مساحة: للحياة، للخطأ، وليدرب ذاته على تجاوز الخذلان، والعمل من أجل الإنسانية:
«ما لهذا السواد يكسو حروفي؟
من ترى خانني؟ يراعي.. مدادي؟
...
غربتي داخلي حقولي بها
من شيم البيد.. من طباع البوادي»،
ويراوح في التعبير عن تعلقه بالمجد بين السواد والبياض، الحزن والأمل، غاب عنه أنه سيدفع ضريبة فرحه بالضوء: اصطدامه بالعقبات، أو أنه قد يتأخر مسيره إلى مجده الذاتي ليبني مجد غيره، أو وصوله إلى النهاية الطبيعية لهذه الحياة وصور كل هذه المعاني وغيرها في تصوير بسيط في ألفاظه عميق في معانيه:
«دهشةُ الوقْدِ أذهلتني لأنسى
أن سأغدو من بعد محض رمادِ».
ولأن الحلم بعيد المنال، لا يأتي إلا بعد لأيٍ؛ كان لا بد أن يمر على الشاعر أوقات يشعر فيها أنه لم يحظَ باهتمام المجد بشخصه وأنه لا زال مُسَجّىً على نقطة البداية:
«بالغوا في ادخارِ هالاتهم إذْ
لم أزلْ سادرًا على الإيقادِ
...
يا لَبؤسِ الحياة! ما وقفت بي
ني وبين المنى بشكلٍ حيادي».
شخص يبحث عن الطموح لن يكتفي بما لديه، بل يتكيف مع متطلبات كل عصر، والشيء الذي كان يمثل له حلمًا لم يعد يرويه؛ فيصنع له حلمًا آخر؛ ولهذا البحث عن مسارٍ للرؤية عنده لا تحده نهاية:
«والغيوم التي تمر بأفْقي
كنتُ أرضى منهن بالإرعادِ!
...
ما أمدّ المنى! وأكثر موتي
وأقل الإعلان عن ميلادي».
على ضفاف الأحلام التي خُلِق منها ذلك القلب، وبجوار الواقع الذي التهم كل اللحظات تستند مفردات هذه القصيدة التاريخية المكتظة بمختلف المشاعر؛ فأليست قصيدة إنسانية؟!.
- أمل طوهري