علي الخزيم
تقاعد (أبو دحيم) مؤخراً من عمله تحت طائلة ما يُسمَّى لدى الخدمة المدنية إن لم يكن قد نسخ بأنكي من هذه العبارة: (بقوة النظام)، وهي عبارة يرى كثيرون أنها جملة جافة توحي بالتنافر بين الموظف ودوائر القرار بالخدمة المدنية، وكأن العيون هناك تُحَمْلق بالأوراق كل صباح للإيقاع بعدد ممَّن بلغوا السن النظامية للتقاعد أو أمضوا الفترة الكافية للخدمة المقررة لكل موظف، هي جملة تشعر المرء بأنه محل الترصد من النظام الخدمي لإزاحته من الوظيفة، فلو استبدلت بجملة أرق وأكثر حميمية مع من خدموا بلادهم وخدموا أنفسهم مكافحين لكان أرقى وادعى لمعاني الوفاء، وبالتالي فهذا وذاك كلهم موظفون يجري النظام عليهم جميعاً، فما خدش مشاعر أبو دحيم الطيب سيتناوش يوماً أحاسيس من يُوقِّع بيان المتقاعدين الممهور بالعبارة العتيقة (وذلك بقوة النظام).
صاحبنا المتقاعد الجديد قد بدأ احتفالية التقاعد مبكراً قبل قوة النظام بشهر ونيف لعلمه وإدراكه أنه سيجد بهذه المرحلة فرصاً جديدة مثمرة؛ أولها الراحة النفسية من الانعتاق من النظر للساعة باليوم ثلاثين مرة وتزيد، ثم إنه - كما قال - سيمارس وينفذ حلماً يتمناه منذ سنين مضت وهو إمكانية النوم والاستيقاظ كما يحلو له لا كما يفرضه نظام الارتباط بالعمل وقد تحقق، والإجراء الثاني هو التمتع بالمشي الصباحي بُعَيد الفجر كما يحلو له دون توتر خشية نفاذ الوقت والتأخر عن موعد التوقيع عند سعادة المدير الذي لا يغفر لأحد ذلك ويبرر لنفسه إذا تأخر بأعذار وقصص باهتة حفظها الموظفون ليس للعبرة إنما للتندر بها بالاستراحة أو الرحلات البرية.
يشير المتقاعد الجديد أنه إذا انصرف من صلاة الفجر هذه الأيام، حيث إن الوقت قصير بين الصلاة وموعد التوقيع (لاحظ أن التركيز على التوقيع وليس العمل) فإنه يراقب الذين يمتطون صهوات سياراتهم مسرعين إلى أعمالهم قبيل احتدام الزحام بالطرقات بالرياض، حيث يعيش؛ فيرفع يديه مُجَدّداً إلى السماء ليحمد الله على هذه النعمة، ويضيف أنه بعد دقائق تبدأ أصوات أبواق ومزامير السيارات تتصاعد لا سيما عند التقاطعات وإشارات المرور فالأعصاب مشدودة والكل يريد اللحاق بالتوقيع واتقاء نظرات المدير أو من ينيبه من العيون المُخْلِصة، ويؤكّد أنها نعمة مضافة إلى النعم السابقة فراحة البال واسترخاء الأعصاب أمر مهم لصحة البدن واتقاء الأمراض المزمنة كالضغط وسكر الدم وملحقاتها، وزاد بأن الإنسان بهذه المرحلة العُمْرِية بحاجة للحفاظ على ما بقي من مخزون صحي والبحث عن الرشاقة ما أمكن فخلفه مديرة منزلية لا تتنازل عن حقوق مشروعة يجب تأديتها على وجهها الأكمل، ولهذا فعلى المتقاعد التركيز على المفيد الناجع من الغذاء والانضباط بممارسة الرياضة المفضّلة، لمكافحة الفشل بالمهام المنتظرة منزلياً ولئلا يكون التقاعد مضاعفاً بقوة نظام الإدارة المحلية بالمنزل!
ويستفاد من إيضاحات المتقاعد المستجد أبو دحيم أن التقاعد ليس نهاية إلاَّ لمواعيد الدوام فقط، وبداية مرحلة حياتية ممتعة حقاً لمن يُحسن استثمارها بالحيوية والتقاط هنيهات السعادة.