د. عبدالحق عزوزي
تحدثنا منذ أزيد من أسبوعين في مقالة لنا على صفحات هاته الجريدة الغراء عن موضوع «استطلاعات الرأي والقلم وما يسطرون» وأشرنا من بين ما أشرنا إليه إلى الحياة السياسية الفرنسية، وتدني شعبية الرئيس الفرنسي الحالي بعد صدور كتابه الأخير. وبالفعل قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند منذ أيام قلائل: إنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة عام 2017. وأعطت آخر استطلاعات الرأي هولاند أقل من عشرة في المائة من نوايا التصويت خلال الدورة الأولى من الرئاسيات المقبلة.
وأعلن الرئيس الفرنسي في كلمة متلفزة أنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة في انتخابات 2017. وقال هولاند (62 عاماً) في كلمته من قصر الإليزيه «أنا واع للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن خطوة من قبلي لن تلقى التفافاً واسعاً حولها. لذلك قررت عدم الترشح للانتخابات الرئاسية».
وكان هولاند انتخب رئيسا عام 2012 بمواجهة نيكولا ساركوزي، وهو بات الرئيس الأول الذي يرفض الترشح لولاية ثانية منذ عام 1958.
وبالإشارة إلى الكتاب سالف الذكر الذي عنونه الرئيس هولاند «الرئيس لا يجب أن يقول مثل هذا الكلام...» هو كتاب أسال الكثير من المداد في الأوساط الفكرية والسياسية والصحافية، فلا حديث في الصالونات الباريسية إلا عن توقيت وجدوى إصدار كتاب بمثل هذا المحتوى الذي يقوض احتمالات بقاء اليسار في قصر الإليزي ولم يبق للانتخابات الرئاسية إلا أشهر معدودات إلى درجة أن أحد المستشارين في الإليزيه قال: إن الحزب اليوم هو «شبيه بمن يلعب الموسيقى على سفينة تيتانيك...» بمعنى أن هولاند بهذا الكتاب أغرق نفسه هو ومن معه في اليسار في الأرض جميعًا، ومن قرأ التحليلات واستطلاعات الرأي سيخرج بقناعة أنه بهذا الكتاب، حكم على نفسه «بالسكتة السياسية» على مستقبله، وهذا بالضبط هو ما وقع عندما أعلن منذ أيام قلائل عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية.
دائماً ما أنصح طلبتي في العلاقات الدولية والعلوم السياسية بقراءة كتب ومذكرات الرؤساء السابقين وكبار رجالات الدولة في الدول الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، لأنهم على دراية بما فوق حشائش وتحت حشائش السياسة الداخلية والخارجية وهي خزان للمعلومات التي لا يمكن لرئيس أن يبوح بها وهو على كرسي المسؤولية، وللباحث والمفكر المتضلع أن يضع عليها إسقاطات علمية تمكنه من فهم أكبر للنظام الدولي ولما لا يمكن أن يقوله أي منظر في العلاقات الدولية. ولكن المشكلة تكمن في أن الرئيس هولاند أصدر هذا الكتاب قبل أن يغادر عرش الإليزي. الرؤساء الفرنسيون السابقون كان لهم مؤرخوهم الخاصون وذوو الأقلام التي تكتب لهم، ولكنهم ما أصدروا مثل هاته الكتب إلا بعد انتهاء مسؤولياتهم اتقاء شر المعارضة والناخب على السواء.
الحيرة التي أصابت مستشاري الرئيس ووزراءه وأعضاء حزبه تكمن في سؤال واحد: «ماذا وقع لسعادة الرئيس؟» ففي المئات من الصفحات أسر الرئيس هولاند بما يجول في فكره لصحافيين اثنين صاحبهما لفترة طويلة، وهو الرجل المعروف بأنه لا يثق في أحد حتى في أقرب مستشاريه... لم يفتأ الرئيس هولاند في هذا الكتاب في انتقاد كل المسؤولين والفاعلين والأجهزة الحساسة التي لا يجب أن تذكر بسوء في هاته الفترة ما قبل الانتخابات الرئيسة؛ فانتقد الرئيس فرنسوا هولاند القضاء الذي وصفه بأنه «مؤسسة من الجبناء»، كما حكم على لاعبي منتخب فرنسا لكرة القدم بأنهم بحاجة إلى «تدريب عضلات أدمغتهم»، كما كما أنه أفشى أسرار دولة هي من عمل المخابرات عندما كشف بأنه أجاز لأجهزة الاستخبارات الخارجية تنفيذ بعض عمليات اغتيال على الأقل، والقائمة طويلة.
على السياسي أن يتمتع بثلاث صفات محددة: الشغف والشعور بالمسؤولية وبعد النظر... فالشغف، يعني الانكباب على المشاكل ومعالجتها بشغف ودراية ولا بجهل وببلادة، ولا يمكن للسياسات العمومية للسياسي أن تؤتي أكلها ولو بعد حين، عندما تغيب المسؤولية وتقوى المصالح الذاتية الآنية على مصالح البلد. ثم يضاف إلى هذا كله بعد النظر، وهي ملكة وتجربة ودراية وقوة وقدرة وصفة حاسمة عند السياسي، فانعدام المسافة بينه وبين الأشياء والناس هو أحد الأخطاء القاتلة بالنسبة إلى كل من يتعاطى السياسة، وغيابها في هاته المرحلة هي التي أوصلت الرئيس الفرنسي إلى العزوف عن الترشح الرئاسي.