اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إذا ما أدرك شاغل المنصب أن الوظيفة خدمة أكثر منها سلطة، وأن المسؤولية التي يتحملها يتعين أن تكبح جماح السلطة، وتضعها في إطارها الصحيح، عندئذ تكون لديه قناعة بأن حق فرض الإرادة المترتب على تسنم المنصب يقابله مسؤولية، تحفظ توازن هذه الأحقية، وتلجم تجاوزاتها وشطحاتها، فضلاً عن أن هذه الإرادة المفروضة تتضاءل سلطتها، وتضيق دائرتها كلما تحزبت الأمور واشتدت المخاطر، بينما تقوى السلطة المنبعثة من تأثير شخصية شاغل المنصب نفسه، وتتسع دائرة التأثير في تناسب طردي مع قدرته على إعطاء القدوة وضرب المثل، وممارسة العمل من منظور قيادي.
وانطلاقًا من أن المثل خير معلم، وأن صوت الفعل يعلو على صوت القول، فإن تحقيق هذه الفضيلة يكون عبر طغيان الفعل الصالح على القول الصادق، والربط بين الأقوال والأفعال بالشكل الذي يؤكد مصداقية الأولى وترجمتها إلى واقع من خلال الثانية؛ وبالتالي تجسيد القدوة وتقديم المثل على نحو يستطيع معه كل من يقدم مثالاً صالحًا وقدوة حسنة أن يطلب من غيره التمثل به، والاقتداء بفعله، مهما كانت الصعوبات والمعوقات؛ وذلك لما يجسده أمام الآخرين من مُثل عليا، تدفعهم إلى تقليده والإعجاب به، وتجعله أهلاً لأن يكون قدوة صالحة.
وفي الحالة التي يكون فيها القول جميلاً، والفعل حسنًا، فإن زيادة الفعل على القول تزيد الفعل حسنًا والقول جمالاً، وزيادة القول على الفعل تقبح القول، وتقلل من شأن الفعل، فكيف بمن يأمر بالمعروف وينسى نفسه، أو قوله يخالف فعله؟!
وكلما ارتفع المقام بشاغل المنصب، وعلا شأنه، استشرف للناس مكانة، وأصبح قِبلة للأنظار؛ الأمر الذي تزداد حاجته معه لأن يكون قدوة، وتظهر عليه دلائل حسن الأسوة؛ وذلك لكي يتأسى به مَن دونه، ويثق به مَن فوقه، خاصة أن من علت به المراتب والرتب تتم مراقبته من زاويتين مختلفتين، ويجري ذلك في تناسب عكسي من قِبل طرفَي المراقبة؛ فالذي دونه تتضاعف مراقبته له، ويزيد اهتمامه به للاقتداء والبحث عن مُثل عليا، والأعلى منه تخف مراقبته له بحكم الصلاحية الممنوحة والمسؤولية المشتركة والثقة المرتبطة بهذا الموضوع؛ ما يتطلب منه أن يكون له من ذاته مراقب داخلي، وأن يجد في ذلك وازعًا وجدانيًّا ودافعًا ضميريًّا، يحثانه على أن يكون عند حسن ظن من يريد التمثل به، ومحل ثقة من يلتمس له الثقة، مع الأخذ في الحسبان أن السهم بقدر ما يزيد ارتفاعه إلى أعلى بقدر ما يكون سقوطه مدويًا.
وحياة شاغل المنصب في العمل لا تنفك عن حياته العامة؛ إذ يجب عليه أن يحاول جاهدًا أن يكون قدوة حسنة في كل مكان وزمان كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً متحليًا بمكارم الأخلاق، ومتأسيًا بالشرفاء وأصحاب الهمم العالية الذين يجد في ترسم خطاهم واتباع أثرهم ما يدنيه من الهدى، وينأى به عن الردى.
والمثل المعطى أثناء ممارسة العمل في المنصب، وداخل إطار الوظيفة والمهنة، لا يكتمل نصابه ولا يحسب له حسابه حتى يضيف إليه شاغل المنصب شواهد تؤيده من حياته العامة على نحو يزيد من تأثير شخصيته، وينأى بها بعيدًا عن أي قول أو فعل يتعارض مع المبادئ والمثل التي ينادي بها.
وعندما نريد التدليل على قيمة إعطاء المثل، وتطبيق ذلك على شيء من واقعنا، فإن قضية الفساد هي إحدى المحكات لتجسيد القدوة، والمقياس الذي يُقاس به جانبٌ من أخلاقيات شاغل المنصب وسلوكياته؛ بوصفها تمثل القضية المحورية التي تتمحور حولها معظم المشكلات، وتلتقي عند مكافحتها جملة من القيم والمثل التي ينبغي من أرباب المناصب وأصحاب المراتب أن يكونوا قدوة عند تطبيق هذه الفضائل لمحاربة الفساد والتعاطي مع أسبابه ومسبباته.
ولا يمكن لشاغل المنصب أن يحارب الفساد المالي والإداري ما لم يجعل من نفسه قدوة، رافعًا شعار العفة والنزاهة ونظافة اليد وغيرها من الفضائل؛ إذ إن الفساد الذي يحدث على شكل حالات فردية، ويمارسه نوعيات دونية، لا يقارن بذلك الذي تحول إلى ظاهرة، وله علاقة مباشرة بالمال العام ومصالح المجتمع، ويتعاطاه جهات ذات سلطة ومسؤولية تجاه هذا المجتمع.
والسلطة تهدف إلى خدمة المصلحة العامة، والمسؤولية الملازمة لها تحافظ على هذا الهدف، وإذا ما تجاهل شاغل المنصب مسؤوليته، وانحرف بالسلطة عن هدفها، وحولها إلى أداة للحصول على مصالح خاصة، ومنافع له أو لغيره، عندئذ تتحول هذه السلطة إلى أداة من أدوات الفساد، وبؤرة من بؤره.. والنفوذ بدلاً من أن يكون صالحًا يصبح فاسدًا، وتختل الموازين، وتنعكس المفاهيم بسبب انتشار عدوى الفساد، وانحسار تأثير القدوة الصالحة.